فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
فَاِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِى الۡحَـرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِمۡ مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُوۡنَ
تفسير ميسر:
فإن واجهت هؤلاء الناقضين للعهود والمواثيق في المعركة، فأنزِلْ بهم من العذاب ما يُدْخل الرعب في قلوب الآخرين، ويشتت جموعهم؛ لعلهم يذّكرون، فلا يجترئون على مثل الذي أقدم عليه السابقون.
"فإما تثقفنهم في الحرب" أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب "فشرد بهم من خلفهم" أي نكل بهم. قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ويصيروا لهم عبرة "لعلهم يذكرون" وقال السدي يقول لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
قوله تعالى ; فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون شرط وجوابه . ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون ; تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع " إما " في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير . ومعنى تثقفنهم تأسرهم وتجعلهم في ثقاف ، أو تلقاهم بحال ضعف ، تقدر عليهم فيها وتغلبهم . وهذا لازم من اللفظ ; لقوله ; في الحرب . وقال بعض الناس ; تصادفنهم وتلقاهم . يقال ; ثقفته أثقفه ثقفا ، أي وجدته . وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه . وثقف لقف . وامرأة ثقاف . والقول الأول أولى ; لارتباطه بالآية كما بينا . والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به ، وقد لا يغلب . والثقاف في اللغة ; ما يشد به القناة ونحوها . ومنه قول النابغة ;تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيبفشرد بهم من خلفهم قال سعيد بن جبير ; المعنى أنذر بهم من خلفهم . قال أبو عبيد ; هي لغة قريش ، شرد بهم سمع بهم . وقال الضحاك ; نكل بهم . الزجاج ; افعل بهم [ ص; 389 ] فعلا من القتل تفرق به من خلفهم . والتشريد في اللغة ; التبديد والتفريق ، يقال ; شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها . وكذلك الواحد ، تقول ; تركته شريدا عن وطنه وأهله . قال الشاعر من هذيل ;أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيمومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه . و من بمعنى الذي ، قاله الكسائي . وروي عن ابن مسعود ( فشرذ ) بالذال المعجمة ، وهما لغتان . وقال قطرب ; التشريذ " بالذال المعجمة " التنكيل . وبالدال المهملة التفريق ، حكاه الثعلبي . وقال المهدوي ; الذال لا وجه لها ، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما ، ولا يعرف في اللغة " فشرذ " . وقرئ ( من خلفهم ) بكسر الميم والفاء .لعلهم يذكرون أي يتذكرون بوعدك إياهم . وقيل ; هذا يرجع إلى من خلفهم ، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم من عمل بمثل عملهم .
القول في تأويل قوله ; فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم; فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة، فتأسرهم, (9) =(فشرد بهم من خلفهم)، يقول; فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عهد وعقد.* * *و " التشريد "، التطريد والتبديد والتفريق.* * *وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن وراءهم، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد, حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;16212- حدثني المثنى قال; حدثنا عبد الله بن صالح قال; حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله; (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يعني; نكّل بهم من بعدهم.16213- حدثني محمد بن سعد قال; حدثني أبي قال; حدثني عمي قال; حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس; (فشرد بهم من خلفهم)، يقول; نكل بهم من وراءهم.16214- حدثنا بشر بن معاذ قال; حدثنا يزيد قال; حدثنا سعيد, عن قتادة قوله; (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يقول; عظْ بهم من سواهم من الناس.16215- حدثنا محمد بن الحسين قال; حدثنا أحمد بن المفضل قال; حدثنا أسباط, عن السدي; (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يقول; نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ, لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك.16216- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال; حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير; (فشرد بهم من خلفهم)، قال; أنذر بهم من خلفهم.16217- حدثنا القاسم قال; حدثنا الحسين قال; حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال; نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم =قال ابن جريج, قال عبد الله بن كثير; نكل بهم مَنْ وراءهم.16218- حدثنا ابن حميد قال; حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق; (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)، أي; نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (10)16219- حُدثت عن الحسين بن الفرج قال; سمعت أبا معاذ قال; حدثنا عبيد بن سليمان قال; سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله; (فشرد بهم من خلفهم)، يقول; نكل بهم من بعدهم.16220- حدثني يونس قال; أخبرنا ابن وهب قال; قال ابن زيد في قول الله; (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، قال; أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ; وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ (11) [الأنفال; 60]* * *وأما قوله; (لعلهم يذكرون)، فإن معناه; كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم, (12) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينـزل بهم منك ما نـزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.-------------------الهوامش ;(9) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3 ; 564 7 ; 110 .(10) الأثر ; 16218 - سيرة ابن هشام 2 ; 329 ، وهو تابع الأثر السالف رقم ; 16173 ، ثم هو في الحقيقة تابع الأثر السالف رقم ; 16186 ، سيرة ابن هشام 2 ; 318 ، 319 .(11) الأثر ; 16220 - انظر الأثر التالي رقم ; 16242 ، والتعليق عليه .(12) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ذكر ) .
تفسير الآيات من 55 الى 57 : هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم ، فإذهاب هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق. {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي: نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون [به] عبرة لمن بعدهم {لَعَلَّهُمْ} أي من خلفهم {يَذْكُرُونَ} صنيعهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم،وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها. ودل تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر ـ ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر ـ أنه إذا أُعْطِيَ عهدا لا يجوز خيانته وعقوبته
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة