قُلْ إِنِّى عَلٰى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِۦ ۚ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦٓ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفٰصِلِينَ
قُلۡ اِنِّىۡ عَلٰى بَيِّنَةٍ مِّنۡ رَّبِّىۡ وَكَذَّبۡتُمۡ بِهٖؕ مَا عِنۡدِىۡ مَا تَسۡتَعۡجِلُوۡنَ بِهٖؕ اِنِ الۡحُكۡمُ اِلَّا لِلّٰهِؕ يَقُصُّ الۡحَـقَّ وَهُوَ خَيۡرُ الۡفٰصِلِيۡنَ
تفسير ميسر:
قل -أيها الرسول لهؤلاء المشركين-; إني على بصيرة واضحة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ، وذلك بإفراده وحده بالعبادة، وقد كذَّبتم بهذا، وليس في قدرتي إنزال العذاب الذي تستعجلون به، وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى، يقصُّ الحقَّ، وهو خير مَن يفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه.
وقوله "قل إني على بينة من ربي" أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي "وكذبتم به" أي بالحق الذي جاءني من الله "ما عندي ما تستعجلون به" أي من العذاب "إن الحكم إلا لله" أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك وإن شاء أنظركم وأجلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ولهذا قال "يقص الحق وهو خير الفاصلين" أي وهو خير من فصل القضايا وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.
قوله تعالى ; قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قوله تعالى ; قل إني على بينة من ربي أي ; دلالة ويقين وحجة وبرهان ، لا على هوى ; ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره . وكذبتم به أي ; بالبينة لأنها في معنى البيان ، كما [ ص; 344 ] قال ; وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه على ما بيناه هناك . وقيل يعود على الرب ، أي ; كذبتم بربي لأنه جرى ذكره . وقيل ; بالعذاب . وقيل ; بالقرآن . وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه ، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه ;أأقعد بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني أجادل كل معترض خصيموأجعل دينه غرضا لديني فأترك ما علمت لرأي غيريوليس الرأي كالعلم اليقين وما أنا والخصومة وهي شيءيصرف في الشمال وفي اليمين وقد سنت لنا سنن قواميلحن بكل فج أو وجين وكان الحق ليس به خفاءأغر كغرة الفلق المبين وما عوض لنا منهاج جهمبمنهاج ابن آمنة الأمين فأما ما علمت فقد كفانيوأما ما جهلت فجنبونيقوله تعالى ; ما عندي ما تستعجلون به أي العذاب ; فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء ، نحو قولهم ; أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . وقيل ; ما عندي من الآيات التي تقترحونها . إن الحكم إلا لله أي ; ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله . وقيل ; الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله . ( يقص الحق ) أي ; يقص القصص الحق ; وبه استدل من منع المجاز في القرآن ، وهي قراءة نافع وابن كثير وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس ; قال ابن عباس ; قال الله عز وجل ; نحن نقص عليك أحسن القصص والباقون " يقض الحق " بالضاد المعجمة ، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي ، وسعيد بن المسيب ، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء ، ولا ينبغي الوقف عليه ، وهو من القضاء ; ودل على ذلك أن بعده وهو خير الفاصلين والفصل لا يكون إلا قضاء دون قصص ، ويقوي ذلك قوله قبله ; إن الحكم إلا لله ، ويقوي ذلك أيضا قراءة ابن مسعود ( إن الحكم إلا لله يقضي بالحق ) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء . قال النحاس ; هذا لا يلزم ; لأن معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى ; يأتي الحق ، ويجوز أن يكون المعنى ; يقضي القضاء [ ص; 345 ] الحق . قال مكي ; وقراءة الصاد أحب إلي ; لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك ، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود . قال النحاس ; وهذا الاحتجاج لا يلزم ; لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا .
القول في تأويل قوله ; قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم; " قل "، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك =" إني على بيّنة من ربي"، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي =" من ربي"، يقول; من توحيدي, (18) وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته (19) من غير إشراك شيء به.* * *وكذلك تقول العرب; " فلان على بينة من هذا الأمر "، إذا كان على بيان منه, (20) ومن ذلك قول الشاعر; (21)أَبَيِّنَــةً تَبْغُــونَ بَعْــدَ اعْتِرَافِــهِوقَــوْلِ سُـوَيْدٍ قَـدْ كَفَيْتُكُـمُ بِشْـرَا (22)* * *" وكذبتم به " يقول; وكذبتم أنتم بربكم = و " الهاء " في قوله " به " من ذكر الرب جلّ وعز =" ما عندي ما تستعجلون به "، يقول; ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم; هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [سورة الأنبياء; 3] . وقالوا للقرآن; هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم; بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون; بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون = فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم; أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به, وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل (23) =" وهو خير الفاصلين " ، أي; وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور, فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين.وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله; (وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ).13302 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير; أنه قال; في قراءة عبد الله; (يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ).* * *واختلفت القرأة في قراءة قوله; " يقصُّ الحق ". (24)فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة; " إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ" ، بالصاد، بمعنى " القصص "، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره; نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [سورة يوسف; 3] . وذكر ذلك عن ابن عباس.13303 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال،" يقص الحق " , وقال; نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ .* * *وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة; ( إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ) بالضاد، من " القضاء "، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، (25) واعتبروا صحة ذلك بقوله; " وهو خير الفاصلين "، وأن " الفصل " بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص.* * *وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة.* * *فمعنى الكلام إذًا; ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلا الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحق بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.----------------------الهوامش ;(18) في المطبوعة; "توحيده" ، وأثبت ما في المخطوطة.(19) في المطبوعة; "عبوديته" ، وأثبت ما في المخطوطة.(20) انظر تفسير"البينة" فيما سلف من فهارس اللغة (بين).(21) لم أعرف قائله.(22) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1; 193.(23) انظر تفسير"الفصل" فيما سلف 5; 338.(24) في المطبوعة والمخطوطة; "يقضي الحق" ، وهو سهو هنا ، والصواب ما أثبته.(25) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2; 542 ، 543 ، وسائر فهارس اللغة.
وأنا { عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي: على يقين مبين، بصحته، وبطلان ما عداه، وهذه شهادة من الرسول جازمة، لا تقبل التردد، وهو أعدل الشهود على الإطلاق. فصدق بها المؤمنون، وتبين لهم من صحتها وصدقها، بحسب ما مَنَّ الله به عليهم. { وَ } لكنكم أيها المشركون – { كذبتم به } وهو لا يستحق هذا منكم، ولا يليق به إلا التصديق، وإذا استمررتم على تكذيبكم، فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة، وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم، إذا شاء، وكيف شاء، وإن استعجلتم به، فليس بيدي من الأمر شيء { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر ونهى، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب، بحسب ما تقتضيه حكمته. فالاعتراض على حكمه مطلقا مدفوع، وقد أوضح السبيل، وقص على عباده الحق قصا، قطع به معاذيرهم، وانقطعت له حجتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } بين عباده، في الدنيا والآخرة، فيفصل بينهم فصلا، يحمده عليه، حتى من قضى عليه، ووجه الحق نحوه.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة