وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآئِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
وَمَا لَـكُمۡ اَلَّا تَاۡكُلُوۡا مِمَّا ذُكِرَ اسۡمُ اللّٰهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَـكُمۡ مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ اِلَّا مَا اضۡطُرِرۡتُمۡ اِلَيۡهِؕ وَاِنَّ كَثِيۡرًا لَّيُضِلُّوۡنَ بِاَهۡوَآٮِٕهِمۡ بِغَيۡرِ عِلۡمٍؕ اِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَعۡلَمُ بِالۡمُعۡتَدِيۡنَ
تفسير ميسر:
وأيُّ شيء يمنعكم أيها المسلمون من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد بيَّن الله سبحانه لكم جميع ما حرَّم عليكم؟ لكن ما دعت إليه الضرورة بسبب المجاعة، مما هو محرم عليكم كالميتة، فإنه مباح لكم. وإنَّ كثيرًا من الضالين ليضلون عن سبيل الله أشياعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال بأهوائهم؛ جهلا منهم. إن ربك -أيها الرسول- هو أعلم بمن تجاوز حده في ذلك، وهو الذي يتولى حسابه وجزاءه.
فقال "وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم" أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه وقرأ بعضهم فصل بالتشديد وقرأ آخرون بالتخفيف والكل بمعنى البيان والوضوح "إلا ما اضطررتم إليه" أي إلا في حال الاضطرار فإنه يباح لكم ما وجدتم ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى فقال "وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين" أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
قوله تعالى ; وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين .قوله تعالى ; وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم .وقد فصل لكم ما حرم عليكم أي بين لكم الحلال من الحرام ، وأزيل عنكم اللبس والشك . ف " ما " استفهام يتضمن التقرير . وتقدير الكلام ; وأي شيء لكم في ألا تأكلوا . ف " أن " في موضع خفض بتقدير حرف الجر . ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر ، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله ما لكم تقديره أي ما يمنعكم . ثم استثنى فقال إلا ما اضطررتم إليه يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها كما تقدم في " البقرة " وهو استثناء منقطع . وقرأ نافع ويعقوب وقد فصل لكم ما حرم بفتح الفعلين . وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما ، والكوفيون " فصل " بالفتح " حرم " بالضم . وقرأ عطية العوفي " فصل " بالتخفيف . ومعناه أبان وظهر ; كما قرئ [ ص; 67 ] الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت أي استبانت . واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة . وقيل ; فصل أي بين ، وهو ما ذكره في سورة " المائدة " من قوله ; حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية . قلت ; هذا فيه نظر ; فإن " الأنعام " مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد ، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل . والله أعلم .وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وقرأ الكوفيون " يضلون " من أضل . يعني المشركين حيث قالوا ; ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم بغير علم أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح ; إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه ; ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء . والله أعلم .
القول في تأويل قوله ; وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِقال أبو جعفر; اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله; (وما لكم أن لا تأكلوا).فقال بعض نحويي البصريين; معنى ذلك; وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال; وذلك نظير قوله; وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ ، [سورة البقرة; 246]. يقول; أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال; ولو كانت " لا "، زائدة لا يقع الفعل. (1) ولو كانت في معنى; " وما لنا وكذا ", لكانت; وما لنا وأن لا نقاتل .* * *وقال غيره; إنما دخلت " لا " للمنع, لأن تأويل " ما لك ", و " ما منعك " واحد." ما منعك لا تفعل ذلك ", و " ما لك لا تفعل "، واحد. فلذلك دخلت " لا " . قال; وهذا الموضع تكون فيه " لا "، وتكون فيه " أنْ"، مثل قوله; يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [سورة النساء; 176]، و " أن لا تضلوا "، يمنعكم من الضلال بالبيان . (2)* * *قال أبو جعفر; وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال; معنى قوله; (وما لكم)، في هذا الموضع; وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان= وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية, وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال; وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون, وبينته لكم بقولي; (3) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلى قوله; فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ، [سورة المائدة; 3]، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه .فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك; " وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا "، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا .* * *وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله; " فصَّل ", و " فَصَّلْنَا " و " فُصِّل " بيَّن, أو بُيِّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع (4) كما;-13791- حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال; حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة; (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، يقول; قد بين لكم ما حرم عليكم .13792- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله .* * *واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه; (وقد فصل لكم ما حرم عليكم).فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من " فَصَّلَ" و " حَرَّم "، أي; فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبيَّنه لكم .* * *وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين; (وَقَدْ فَصَّلَ) بفتح فاء " فصل " وتشديد صاده," مَا حُرِّمَ"، بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى; وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم .* * *وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين; " وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ"، بضم فائه وتشديد صاده،" مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ"، بضم حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما .* * *وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك; " وَقَدْ فَصَلَ"، بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى; وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم .* * *قال أبو جعفر; والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال; إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار, وهن متّفقات المعاني غير مختلفات, فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ .* * *وأما قوله; (إلا ما اضطررتم إليه)، فإنه يعني تعالى ذكره; أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين, حتى تزول الضرورة . (5) كما;-13793- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة; (إلا ما اضطررتم إليه)، من الميتة .* * *القول في تأويل قوله ; وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره; وإن كثيرًا من الناس [الذين] (6) يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبًا منهم لأهوائهم, واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين (7) =(إن ربك هو أعلم بالمعتدين)، يقول; إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد . (8)* * *واختلفت القرأة في قراءة قوله; (ليضلون).فقرأته عامة أهل الكوفة; (لَيُضِلُّونَ)، بمعنى; أنهم يضلون غيرهم .* * *وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين; " لَيَضِلُّونَ"، بمعنى; أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه .* * *قال أبو جعفر; وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءةُ من قرأ; ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ )، بمعنى; أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال; وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم; وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم= نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم; وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .--------------الهوامش ;(1) قوله ; (( لا يقع الفعل )) ، أي لا يتعدى ، (( الوقوع )) ، التعدي .(2) استوفى أبو جعفر بحث هذا فيما سلف 5 ; 300 - 305 ، والفراء في معاني القرآن 1 ; 163 - 166 ، ولم يشر إلى ذلك أبو جعفر كعادته فيما سلف .(3) في المطبوعة ; (( بقوله )) ، وفي المخطوطة ; (( بقول )) ، وصواب قراءتها ما أثبت .(4) انظر تفسير (( التفصيل )) فيما سلف ص ; 60 ، تعليق ; 2 ، والمراجع هناك ، وانظر فهارس اللغة ( فصل ) .(5) انظر تفسير (( اضطر )) فيما سلف 3 ; 56 ، 322 / 9 ; 532 .(6) الزيادة بين القوسين ، يقتضيها السياق .(7) انظر تفسير (( الأهواء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( هوى )= = وتفسير (( الضلال )) في فهارس اللغة (ضلل ) .(8) انظر تفسير (( الاعتداء )) فيما سلف من فهارس اللغة ( عدا ) .
تفسير الآيتين 118 و119 : يأمر تعالى عباده المؤمنين، بمقتضى الإيمان، وأنهم إن كانوا مؤمنين، فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من بهيمة الأنعام، وغيرها من الحيوانات المحللة، ويعتقدوا حلها، ولا يفعلوا كما يفعل أهل الجاهلية من تحريم كثير من الحلال، ابتداعا من عند أنفسهم، وإضلالا من شياطينهم، فذكر الله أن علامة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية، في هذه العادة الذميمة، المتضمنة لتغيير شرع الله، وأنه، أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل الله لعباده ما حرم عليهم، وبينه، ووضحه؟ فلم يبق فيه إشكال ولا شبهة، توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلال، خوفا من الوقوع في الحرام، ودلت الآية الكريمة، على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت الله عنه فهو حلال، لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس بحرام. ومع ذلك، فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة، كما قال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلى أن قال: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ثم حذر عن كثير من الناس، فقال: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ } أي: بمجرد ما تهوى أنفسهم { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ولا حجة. فليحذر العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتُهم -كما وصفهم الله لعباده- أن دعوتهم غير مبنية على برهان، ولا لهم حجة شرعية، وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم الفاسدة، وآرائهم القاصرة، فهؤلاء معتدون على شرع الله وعلى عباد الله، والله لا يحب المعتدين، بخلاف الهادين المهتدين، فإنهم يدعون إلى الحق والهدى، ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية، ولا يتبعون في دعوتهم إلا رضا ربهم والقرب منه.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة