أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنٰثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
اَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانًا وَّاِنَاثًا ۚ وَيَجۡعَلُ مَنۡ يَّشَآءُ عَقِيۡمًاؕ اِنَّهٗ عَلِيۡمٌ قَدِيۡرٌ
تفسير ميسر:
لله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض وما فيهما، يخلق ما يشاء من الخلق، يهب لمن يشاء من عباده إناثًا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء الذكور لا إناث معهم، ويعطي سبحانه وتعالى لمن يشاء من الناس الذكر والأنثى، ويجعل مَن يشاء عقيمًا لا يولد له، إنه عليم بما يَخْلُق، قدير على خَلْق ما يشاء، لا يعجزه شيء أراد خلقه.
أي ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي من هذا وهذا قال البغوي كمحمد صلى الله عليه وسلم "ويجعل من يشاء عقيما" أي لا يولد له قال البغوي كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فجعل الناس أربعة أقسام منهم من يعطيه البنات ومنهم من يعطيه البنين ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا ولد له "إنه عليم" أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام "قدير" أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام "ولنجعله آية للناس" أي دلالة لهم على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى "ولنجعله آية للناس" فهذا المقام في الآباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام فسبحان العليم القدير.
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا قال مجاهد ; هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية . وقال محمد بن الحنفية ; هو أن تلد توأما ، غلاما وجارية ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا . قال القتبي ; التزويج هاهنا هو الجمع بين البنين والبنات ، تقول العرب ; زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار .ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير أي لا يولد له ، يقال ; رجل عقيم ، وامرأة عقيم . وعقمت المرأة تعقم عقما ، مثل حمد يحمد . وعقمت تعقم ، مثل عظم يعظم . وأصله القطع ، ومنه الملك العقيم ، أي ; تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك . وريح عقيم ، أي ; لا تلقح سحابا ولا شجرا . ويوم القيامة يوم عقيم ; لأنه لا يوم بعده . ويقال ; نساء عقم وعقم ، قال الشاعر [ هو أبو هبل ] ;عقم النساء فما يلدن شبيهه إن النساء بمثله عقموحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها . وهب للوط الإناث ليس معهن ذكر ، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل عيسى ويحيى عقيمين ، ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر . قال إسحاق ; نزلت في الأنبياء ، ثم عمت . يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا - عليه السلام - ، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان . ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم - عليه السلام - لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولد له أربعة بنين وأربع بنات . ويجعل من يشاء عقيما يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام ، لم يذكر عيسى . ابن العربي ; قال علماؤنا يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن . ويهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم ، كان له بنون ولم يكن له بنت . وقوله ; أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى . ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر ، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم . وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - كان له ذكور وإناث ؛ من الأولاد ; القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب [ ص; 47 ] وأم كلثوم ورقية وفاطمة ، وكلهم من خديجة رضي الله عنها ، وإبراهيم وهو من مارية القبطية . وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا ، إلى أن تقوم الساعة ، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة ، ليبقى النسل ، ويتمادى الخلق ، وينفذ الوعد ، ويحق الأمر ، وتعمر الدنيا ، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى . ففي الحديث ; إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط . وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر .الثانية ; قال ابن العربي ; إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شيء ، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة ، فإنه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات ، كما قال القدوس السلام ، فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطء كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ; إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا . وكذلك في الصحيح أيضا ; إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله .قلت ; وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه خرجه مسلم من حديث عروة بن الزبير عنها أن [ ص; 48 ] امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء ؟ فقال ; ( نعم ) فقالت لها عائشة ; تربت يداك وألت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك . إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه . قال علماؤنا ; فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه ، وقد جاء في حديث ثوبان خرجه مسلم أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهودي ; ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله . . . الحديث . فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والأنوثة ، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل ، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة ، لأنهما معلولا علة واحدة ، وليس الأمر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك ، لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين . والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان فيقال ; إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم ، ووجه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي ; غلبته ، ومنه قوله تعالى ; وما نحن بمسبوقين أي ; بمغلوبين ، قيل عليه علا . ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث ; إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا .وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الأحاديث بناء فقال ; إن للماءين أربعة أحوال ; الأول ; أن يخرج ماء الرجل أولا ، الثاني ; أن يخرج ماء المرأة أولا ، الثالث ; أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر ، الرابع ; أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر . ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس ، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة . وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة . وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة ، وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة ، كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل . قال ; وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث ، فسبحان الخالق العليم .الثالثة ; قال علماؤنا ; كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى [ ص; 49 ] الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه ، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه ، وأقض عليه مضجعه ، وجعل يتقلب ويتقلب ، وتجيء به الأفكار وتذهب ، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت ; ما بك ؟ قال لها ; سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه ؟ فقالت ما هو ؟ قال لها ; رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة ; ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين . وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي - رضي الله عنه - فقضى فيها . وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال ; من حيث يبول . وروي أنه أتي بخنثى من الأنصار فقال ; ورثوه من أول ما يبول . وكذا روى محمد بن الحنفية عن علي ، ونحوه عن ابن عباس ، وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، وحكاه المزني عن الشافعي . وقال قوم ; لا دلالة في البول ، فإن خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف ; يحكم بالأكثر . وأنكره أبو حنيفة وقال ; أتكيله! ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما . وحكي عن علي والحسن أنهما قالا ; تعد أضلاعه ، فإن المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد . وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في ( النساء ) مجودا والحمد لله .الرابعة ; قال القاضي أبو بكر بن العربي ; وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى ، لأن الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى . قلنا ; هذا جهل باللغة ، وغباوة عن مقطع الفصاحة ، وقصور عن معرفة سعة القدرة . أما قدرة الله سبحانه فإنه واسع عليم ، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى ; لأن الله تعالى قال ; لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه ; لأن القدرة تقتضيه . وأما قوله ; يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات ، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول ، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره ، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام الشهيد [ ص; 50 ] من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية ، فربك أعلم به ، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله ، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله .
حدثني محمد بن عمرو, قال; ثنا أبو عاصم, قال; ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال; ثنا الحسن, قال; ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال; يخلط بينهم يقول; التزويج; أن تلد المرأة غلاما, ثم تلد جارية, ثم تلد غلاما, ثم تلد جارية.حدثنا بشر, قال; ثنا يزيد, قال; ثنا سعيد, عن قتادة, قوله; (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) قادر والله ربنا على ذلك أن يهب للرجل ذكورا ليست معهم أنثى, وأن يهب للرجل ذكرانا وإناثا, فيجمعهم له جميعا,( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يولد له.حدثنا محمد, قال; ثنا أحمد, قال; ثنا أسباط, عن السديّ, في قول الله عزّ وجلّ; (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ليست معهم إناث ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال; يهب لهم إناثا وذكرانا, ويجعل من يشاء عقيما لا يُولَد له.حدثني عليّ, قال; ثنا أبو صالح, قال; ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله; ( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) يقول; لا يُلْقِح.حدثني يونس, قال; أخبرنا ابن وهب, قال; قال ابن زيد, في قوله; ( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يلد واحدا ولا اثنين.حُدثت عن الحسين, قال; سمعت أبا معاذ يقول; أخبرنا عبيد الله, قال; سمعت الضحاك يقول في قوله; (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) ليس فيهم أنثى ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) تلد المرأة ذكرا مرّة وأنثى مرّة ( وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ) لا يولد له.وقال ابن زيد; في معنى قوله; ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) قال; أو يجعل في الواحد ذكرا وأنثى توأما, هذا قوله; ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ).وقوله; ( إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره; إن الله ذو علم بما يخلق, وقدرة على خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه, ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
فمن الخلق من يهب له إناثا، ومنهم من يهب له ذكورا، ومنهم من يزوجه، أي: يجمع له ذكورا وإناثا، ومنهم من يجعله عقيما لا يولد له.{ إِنَّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } على كل شيء، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء، وبقدرته في مخلوقاته.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة