يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
يُرِيۡدُ اللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَـكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ الَّذِيۡنَ مِنۡ قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوۡبَ عَلَيۡكُمۡ ؕ وَاللّٰهُ عَلِيۡمٌ حَكِيۡمٌ
تفسير ميسر:
يريد الله تعالى بهذه التشريعات، أن يوضح لكم معالم دينه القويم، وشرعه الحكيم، ويدلكم على طرق الأنبياء والصالحين من قبلكم في الحلال والحرام، ويتوب عليكم بالرجوع بكم إلى الطاعات، وهو سبحانه عليم بما يصلح شأن عباده، حكيم فيما شرعه لكم.
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم بما تقدم وذكره في هذه السورة وغيرها "ويهديكم سنن الذين من قبلكم" يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها "ويتوب عليكم" أي من الإثم والمحارم "والله عليم حكيم" أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله.
قوله تعالى ; يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيمأي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم ، وما يحل لكم وما يحرم عليكم . وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى ؛ ومنه قوله تعالى ; ما فرطنا في الكتاب من شيء على ما يأتي . وقال بعد هذا ; يريد الله أن يخفف عنكم فجاء هذا ب أن والأول باللام . فقال الفراء ; العرب تعاقب بين لام كي وأن ؛ فتأتي باللام التي على معنى " كي " في موضع " أن " في أردت وأمرت ؛ فيقولون ; أردت أن تفعل ، وأردت تفعل ؛ لأنهما يطلبان المستقبل . ولا يجوز ظننت لتفعل ؛ لأنك تقول ظننت أن قد قمت . وفي التنزيل وأمرت لأعدل بينكم وأمرنا لنسلم لرب العالمين . يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . يريدون أن يطفئوا نور الله . قال الشاعر ;أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل[ ص; 130 ] يريد أن أنسى . قال النحاس ; وخطأ الزجاج هذا القول وقال ; لو كانت اللام بمعنى " أن " لدخلت عليها لام أخرى ؛ كما تقول ; جئت كي تكرمني ، ثم تقول جئت لكي تكرمني . وأنشدنا قيس بن عبادة ;أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهودقال ; والتقدير إرادته ليبين لكم . قال النحاس ; وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن ؛ وقيل ; المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم .ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي من أهل الحق . وقيل ; معنى يهديكم يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل . وقال بعض أهل النظر ; في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا .قال النحاس ; وهذا غلط ؛ لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه ، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومي به إلى هذا بعينه . ويقال ; إن قوله يريد الله ابتداء القصة ، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته . ويهديكم يعرفكم سنن الذين من قبلكم أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم ، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم . والله عليم بمن تاب حكيم بقبول التوبة .
القول في تأويل قوله ; يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)قال أبو جعفر; يعني جل ثناؤه بقوله; " يريد الله ليبين لكم "، حلاله وحرامَه =" وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم "، يقول; وليسددكم (101) =" سُنن الذين من قبلكم "، يعني; سُبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (102) =" ويتوب عليكم "، يقول; يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك =" عليكم "، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم =" والله عليم "، يقول; والله ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم =" حكيم " بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه. (103)* * *واختلف أهل العربية في معنى قوله; " يريد الله ليبين لكم ".فقال بعضهم; معنى ذلك; يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. وقال; ذلك كما قال; وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [سورة الشورى; 15] بكسر " اللام "، لأن معناه; أمرت بهذا من أجل ذلك.* * *وقال آخرون; معنى ذلك; يريد الله أنْ يُبين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا; من شأن العرب التعقيبُ بين " كي" و " لام كي" و " أن "، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع كلِّ واحدة من أختها معَ" أردت " و " أمرت ". فيقولون; " أمرتكَ أن تذهب، ولتذهب "، و " أردت أن تذهب ولتذهب "، كما قال الله جل ثناؤه; وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام; 71]، وقال في موضع آخر; قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [سورة الأنعام; 14]، (104) وكما قال; يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [سورة الصف; 8]، ثم قال في موضع آخر، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا [سورة التوبة; 32]. واعتلوا في توجيههم " أن " مع " أمرت " و " أردت " إلى معنى " كي"، وتوجيه " كي" مع ذلك إلى معنى " أن "، لطلب " أردت " و " أمرت " الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، (105) لا يقال; " أمرتك أن قمت "، ولا " أردت أن قمت ". قالوا; فلما كانت " أن " قد تكون مع الماضي في غير " أردت " و " أمرت "، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، (106) من " كي" و " اللام " التي في معنى " كي". قالوا; وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع; (107)أَرَدْتَ لِكَيْمَــا أَنْ تَطِــيرَ بِقِــرْبَتِيفَتَتْرُكَهَــا شَــنًّا بِبَيْــدَاءَ بَلَقْــعِ (108)فجمع بينهن، لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن، كما قال الآخر; (109)قَـدْ يَكْسِـبُ المَـالَ الهِـدَانُ الجَـافِيبِغَــيْرِ لا عَصْــفٍ وَلا اصْطِـرَافِ (110)فجمع بين " غير " و " لا "، توكيدًا للنفي. قالوا; إنما يجوز أن يجعل " أن " مكان " كي"، و " كي" مكان " أن "، في الأماكن التي لا يَصْحب جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال; " طننت ليقوم "، ولا " أظن ليقوم "، بمعنى; أظن أن يقوم = لأنّ [" أنْ"]، (111) التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل، يقال; " أظن أن قد قام زيد "، ومع المستقبل، ومع الأسماء. (112)* * *قال أبو جعفر; وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال; إن " اللام " في قوله; " يريد الله ليبين لكم "، بمعنى; يريد الله أنْ يبين لكم، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك.* * *---------------(101) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.(102) انظر تفسير"السنة" فيما سلف 7; 230 ، 231 ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1; 124.(103) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف ، في فهارس اللغة.(104) في المخطوطة والمطبوعة; "وأمرت أن أكون" ، وهو سهو من الناسخ ، وأثبت نص التلاوة.(105) في المطبوعة; "وأيهما" ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وكأنها خطأ مطبعي.(106) في المطبوعة; "ذكروا لها معنى الاستقبال..." ، وهو كلام لا معنى له ، صوابه ما أثبته من المخطوطة ، والظاهر أن الناشر استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن; "استوثقوا لمعنى الاستقبال".(107) لا يعرف قائله.(108) معاني القرآن للفراء 1; 262 ، الإنصاف; 242 ، الخزانة 3; 585 ، والعيني (هامش الخزانة) 4; 405 ، وغيرها ، كما قال صاحب الخزانة; "وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي"."الشن"; الخلق البالي; و"البيداء"; المفازة المهلكة ، و"البلقع"; الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول; إنما أردت بذلك هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة.(109) ينسب إلى العجاج ، وإلى رؤبة ، وليس في ديوانه ، وانظر التعليق التالي.(110) ديوان العجاج; 40 ، 82 ، معاني القرآن للفراء 1; 262 ، الإنصاف; 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي ، هو الوارد في شعر العجاج;قَــالَ الَّـذِي جَـمَّعْتَ لِـي صَـوَافِيمِـنْ غَـيْرِ لا عَصْـفٍ وَلا اصْطِرَافِوهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة ، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة في ديوانه; 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر ، والصواب أنه للعجاج ، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش ، وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه ، وختم قصيدته بقوله;لَيْسَ كَـــذَاكُمْ وَلَـــدُ الأَشْــرَافِأَعْجَــلَنِي المَــوْتَ وَلَــمْ يُكًـافِسَـــوْفَ يُجَــازيك مَلِيـــكٌ وَافِبِــالأَخْذِ إنْ جَــازَاكَ، أَوْ يُعــافِيو"الهدان"; الجبان ، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في حاجة. و"عصف يعصف" و"اعتصف"; طلب وكسب واحتال. و"العصف"; الكسب والاحتيال. و"صرفت الرجل في أمري ، فتصرف واصطرف"; أي احتال في طلب الكسب.(111) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من السياق ، ومن معاني القرآن للفراء.(112) ومثالهما عند الفراء 1; 263 ما نصه"ومع المستقبل ، فتقول; أظن أن سيقوم زيد = ومع الأسماء فتقول; أظن أنك قائم"وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1; 261-263.
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك. وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.
(يريد) مضارع مرفوع
(الله) لفظ الجلالة فاعل مرفوع
(اللام) زائدة
(يبيّن) مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة بعد اللام، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو (اللام) حرف جر و (كم) ضمير في محل جر متعلق بـ (يبيّن) . والمصدر المؤوّلـ (أن يبيّن) في محل نصب مفعول به عامله يريد ... أما المحل القريب فهو الجر باللام (الواو) عاطفة
(يهدي) مضارع منصوب معطوف على فعل يبيّن و (كم) ضمير مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو (سنن) مفعول به ثان منصوبـ (الذين) اسم موصول مبني في محل جر مضاف إليه
(من قبل) جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول و (كم) مضاف إليه
(الواو) عاطفة
(يتوب) مثل يهدي
(عليكم) مثل لكم متعلق بـ (يتوب) ،
(الواو) استئنافية
(الله عليم حكيم) مثل الله غفور رحيم في الآية السابقة.جملة «يريد الله ... » لا محل لها استئنافية. وجملة «يبين لكم» لا محل لها صلة الموصول الحرفي(أن) . وجملة «يهديكم» لا محل لها معطوفة على جملة يبين لكم. وجملة «يتوب عليكم» لا محل لها معطوفة على جملة يبين لكم. وجملة «الله عليم ... » لا محل لها استئنافية.