لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلًا
لَٮِٕنۡ لَّمۡ يَنۡتَهِ الۡمُنٰفِقُوۡنَ وَ الَّذِيۡنَ فِى قُلُوۡبِهِمۡ مَّرَضٌ وَّالۡمُرۡجِفُوۡنَ فِى الۡمَدِيۡنَةِ لَـنُغۡرِيَـنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُوۡنَكَ فِيۡهَاۤ اِلَّا قَلِيۡلًا
تفسير ميسر:
لئن لم يكفَّ الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان والذين في قلوبهم شك وريبة، والذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائحهم وشرورهم، لنسلِّطنَّك عليهم، ثم لا يسكنون معك فيها إلا زمنًا قليلا. مطرودين من رحمة الله، في أي مكان وُجِدوا فيه أُسِروا وقُتِّلوا تقتيلا ما داموا مقيمين على النفاق ونشر الأخبار الكاذبة بين المسلمين بغرض الفتنة والفساد.
ثم قال تعالى متوعدا للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر "والذين في قلوبهم مرض "قال عكرمة وغيره هم الزناة ههنا "والمرجفون في المدينة "يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب وهو كذب وافتراء لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق "لنغرينك بهم "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لنسلطنك عليهم وقال قتادة لنحرشنك بهم وقال السدي لنعلمنك بهم "ثم لا يجاورونك فيها "أي في المدينة.
قوله تعالى ; لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلافيه أربع مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; لئن لم ينته المنافقون أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ; كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال ; المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة قال ; هم شيء واحد ، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء . والواو مقحمة ، كما قال ;إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحمأراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ، وقد مضى في ( البقرة ) . وقيل ; كان منهم قوم يرجفون ، وقوم يتبعون النساء للريبة ، وقوم يشككون المسلمين . قال عكرمة وشهر بن حوشب ; الذين في قلوبهم مرض يعني الذين في قلوبهم الزنى . وقال طاوس ; نزلت هذه الآية في أمر النساء . وقال سلمة بن كهيل ; نزلت في أصحاب الفواحش ، والمعنى متقارب . وقيل ; المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد ، عبر عنهم بلفظين ; دليله آية المنافقين في أول سورة ( البقرة ) . والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم ، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ; إنهم قد قتلوا أو هزموا ، وإن العدو قد أتاكم ، قال قتادة وغيره . وقيل كانوا يقولون ; أصحاب الصفة قوم عزاب ، فهم الذين يتعرضون للنساء . وقيل ; هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة . وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة . وقال ابن عباس ; الإرجاف التماس الفتنة ، والإرجاف ; إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به . وقيل ; تحريك القلوب ، يقال ; رجفت [ ص; 223 ] الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا . والرجفان ; الاضطراب الشديد . والرجاف ; البحر ، سمي به لاضطرابه . قال الشاعر ;المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجافوالإرجاف ; واحد أراجيف ، الأخبار . وقد أرجفوا في الشيء ، أي خاضوا فيه . قال الشاعر ;فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسدوقال آخر ;أبالأراجيف يا بن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورفالإرجاف حرام ؛ لأن فيه إذاية . فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف .الثانية ; قوله تعالى ; لنغرينك بهم أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل ، وقال ابن عباس ; لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم . ثم إنه قال عز وجل ; ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وإنه أمره بلعنهم ، وهذا هو الإغراء ; وقال محمد بن يزيد ; قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها ، وهو قوله عز وجل ; أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم ; أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ; خمس يقتلن في الحل والحرم . فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء . النحاس ; وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وقيل ; إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم . ولام لنغرينك لام القسم ، واليمين واقعة عليها ، وأدخلت اللام في ( إن ) توطئة لها .الثالثة ; قوله تعالى ; ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة . إلا قليلا نصب على الحال من الضمير في يجاورونك ; فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى ; لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء . فهذا أحد جوابي الفراء ، وهو الأولى عنده ، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم . والجواب الآخر ; أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا ، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة ، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف . ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار . وقد مضى في ( النساء ) .
القول في تأويل قوله تعالى ; لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60)يقول تعالى ذكره; لئن لم ينته أهل النفاق الذين يستسرون بالكفر ويظهرون الإيمان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني; ريبة من شهوة الزنا وحب الفجور.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن عمرو بن علي قال; ثنا أَبو عبد الصمد قال ثنا مالك بن دينار عن عكرمة في قوله ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال; هم الزناة.حدثنا ابن بشار قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا سعيد عن قتادة (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال; شهوة الزنا.قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ثنا أَبو صالح التمار قال; سمعت عكرمة في قوله (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال; شهوة الزنا.حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام عن عنبسة عمن حدثه عن أَبي صالح (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال; الزناة.حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال; قال ابن زيد في قوله ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية، قال; هؤلاء صنف من المنافقين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أصحاب الزنا، قال; أهل الزنا من أهل النفاق الذين يطلبون النساء فيبتغون الزنا. وقرأ; فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قال; والمنافقون أصناف عشرة في براءة، قال; فالذين في قلوبهم مرض صنف منهم مرض من أمر النساء.وقوله (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يقول; وأهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل.وكان إرجافهم فيما ذكر كالذي حدثني بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ...) الآية، الإرجاف; الكذب الذي كان نافقه أهل النفاق، وكانوا يقولون; أتاكم عدد وعدة. وذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله بهذه الآية قوله; ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية، فلما أوعدهم الله بهذه الآية كتموا ذلك وأسروه.حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله &; 20-328 &; ( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ) هم أهل النفاق أيضًا الذين يرجفون برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبالمؤمنين. وقوله (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول; لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني علي قال ثنا أَبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يقول; لنسلطنك عليهم.حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ); أي لنحملنك عليهم لنحرشنك بهم.قوله (ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) يقول; ثم لننفينهم عن مدينتك فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا من المدة والأجل، حتى تنفيهم عنها فنخرجهم منها.كما حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة (ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) أي بالمدينة.
وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: مرض شك أو شهوة { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين.ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين، وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء.{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم، ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً، بأن تقتلهم أو تنفيهم.وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه، ويكونون
(اللام) موّطئة للقسم
(إن) حرف شرط جازم
(ينته) مضارع مجزوم فعل الشرط لأن
(لم) للنفي فقط
(في قلوبهم) متعلّق بخبر مقدّم للمبتدأ
(مرض) ،
(في المدينة) متعلّق بحال من الضمير في(المرجفون) ،
(اللام) لام القسم
(نغرينّك) مضارع مبني على الفتح في محلّ رفع
(بهم) متعلّق بـ (نغرينّك) ،
(لا) نافية
(فيها) متعلّق بـ (يجاورونك) ،
(إلّا) للحصر
(قليلا)مفعول فيه نائب عن ظرف الزمان الموصوف متعلّق بـ (يجاورونك) .
جملة: «لم ينته المنافقون ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «في قلوبهم مرض ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «نغرينّك ... » لا محلّ لها جواب القسم.. وجواب الشرط محذوف دلّ عليه جواب القسم.
وجملة: «لا يجاورونك ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة لنغرينّك.
(61)
(ملعونين) حال من فاعل يجاورونك منصوبة
(أينما) اسم شرط جازم في محلّ نصب ظرف مكان متعلّق بالجواب . و (الواو) في(ثقفوا) نائب الفاعل، وكذلك الواو في(أخذوا، قتلوا) ،
(تقتيلا) مفعول مطلق منصوب.
وجملة: «ثقفوا ... » لا محلّ لها استئنافيّة .
وجملة: «أخذوا....» لا محلّ لها جواب الشرط غير مقترنة بالفاء.
وجملة: «قتّلوا ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة أخذوا ...(62)
(سنّة) مفعول مطلق لفعل محذوف أي سنّ الله ذلك سنّة
(في الذين) متعلّق بسنّة
(قبل) اسم ظرفيّ في محلّ جرّ بمن متعلّق بـ (خلوا) ،
(لسنّة) متعلّق بمحذوف مفعول به ثان عامله تجد.وجملة: «
(سنّ) سنة ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «خلوا..» لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «لن تجد ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة الاستئناف الأخيرة.