هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ۚ لَآ إِلٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هُوَ الَّذِىۡ يُصَوِّرُكُمۡ فِى الۡاَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُ ؕ لَاۤ اِلٰهَ اِلَّا هُوَ الۡعَزِيۡزُ الۡحَكِيۡمُ
تفسير ميسر:
هو وحده الذي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء، من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد، لا معبود بحق سواه، العزيز الذي لا يُغالَب، الحكيم في أمره وتدبيره.
"هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء" أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى وحسن وقبيح وشقي وسعيد "لا إله إلا هو العزيز الحكيم" أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام والحكمة والأحكام وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوره في الرحم وخلقه كيف يشاء فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال كما قال تعالى "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث".
قوله تعالى ; هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم فيه مسألتان ;الأولى ; قوله تعالى ; هو الذي يصوركم أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات ، وأصل الرحم من الرحمة ؛ لأنها مما يتراحم به . واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله ، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة . وهذه الآية تعظيم لله تعالى ، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران ، وأن عيسى من المصورين ، وذلك مما لا ينكره عاقل . وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة ( الحج ) و ( المؤمنون ) . وكذلك شرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود ، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى . وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ، وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد . وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سنجر - [ ص; 9 ] حديث ; ( إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة ) . وفي هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة ، وهو صريح في قوله تعالى ; يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى . وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه أن اليهودي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان ، قال ; ( ينفعك إن حدثتك ) ؟ قال ; أسمع بأذني ، قال ; جئتك أسألك عن الولد . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ; ( ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله . . . ) الحديث . وسيأتي بيانه آخر ( الشورى ) إن شاء الله تعالى .الثانية ; قوله تعالى ; كيف يشاء يعني من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة ، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة . وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث ، فقال لهم ; إني مشغول عنكم بأربعة أشياء ، فلا أتفرغ لرواية الحديث . فقيل له ; وما ذاك الشغل ؟ قال ; أحدها إني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال ; ( هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ) فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت ، والثاني حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام ; ( يا رب شقي هو أم سعيد ) فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت ، والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول ; ( يا رب مع الكفر أم مع الإيمان ) فلا أدري كيف يخرج الجواب ، والرابع حيث يقول ; وامتازوا اليوم أيها المجرمون فلا أدري في أي الفريقين أكون .ثم قال تعالى ; لا إله إلا هو أي لا خالق ولا مصور سواه ، وذلك دليل على وحدانيته ، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور . العزيز الذي لا يغالب . الحكيم ذو الحكمة أو المحكم ، وهذا أخص بما ذكر من التصوير .[ ص; 10 ]
القول في تأويل قوله ; هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُقال أبو جعفر; يعني بذلك جل ثناؤه; الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (49) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في &; 6-167 &; رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما;-6567 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير; " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، أي; (50) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنـزل؟ (51)6568 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع; " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، أي; أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.* * *قال آخرون في ذلك ما;-6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله; " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، قال; إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول; أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (52)6570 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله; " هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء "، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.* * *القول في تأويل قوله ; لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)قال أبو جعفر; وهذا القول تنـزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (53) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال; " هو العزيز " الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (54) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (55) ثم أعلمهم أنه " الحكيم " &; 6-169 &; في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، (56) كما;-6571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال; ثم قال - يعني الرب عز وجل -; إنـزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه; " لا إله إلا هو العزيز الحكيم "، قال; العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (57) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (58)6572 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع; " لا إله إلا هو العزيز الحكيم "، يقول; عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.__________________________الهوامش ;(49) في المطبوعة; "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.(50) "أي" ساقطة من المخطوطة والمطبوعة ، وأثبتها من سيرة ابن هشام ، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.(51) الأثر; 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم; 6566 عن ابن إسحاق.(52) الأثر; 6569- قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم; 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16; 189-195 ، وفي البخاري في كتاب"بدء الخلق" في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب"الحيض" باب; مخلقة وغير مخلقة.(53) قوله; "ولجميع من ادعى..." معطوف على قوله; "وتكذيب للذين قالوا..".(54) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة ، على وزن سمع); هو الموئل ، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم); هو الملجأ ، وهو المعقل الذي يحتمى به.(55) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.(56) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.(57) في المطبوعة والمخطوطة; "في نصرته" وهو خطأ في المعنى ، فإن"النصرة" ، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو; الانتقام. وانتصر منه; انتقم.(58) في ابن هشام; "في حجته وعذره إلى عباده" ، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا; بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم، وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره، وعقوبة من لم يهتد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.
(هو) ضمير بارز منفصل في محلّ رفع مبتدأ
(الذي) اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع خبر
(يصور) مضارع مرفوع و (كم) ضمير مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو (في الأرحام) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف حال من ضمير المفعول أي: كائنين في الأرحام ،
(كيف) اسم شرط غير جازم مبنيّ على الفتح في محلّ نصب حال عامله يشاء
(يشاء) مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو،ومفعوله محذوف أي يشاء تصويركم
(لا إله إلّا هو) مرّ إعرابها ،
(العزيز) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو (الحكيم) خبر ثان مرفوع.
جملة: «هو الذي يصوّركم» لا محلّ لها استئنافيّة .
وجملة: «يصوّركم» لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذي) .
وجملة: «يشاء» لا محلّ لها استئنافيّة ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي: كيف يشاء تصويركم يصوركم في الأرحام.
وجملة: «لا إله إلّا هو» لا محلّ لها استئنافيّة » .
وجملة: «هو العزيز» لا محلّ لها استئنافيّة.