إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اِذۡ هَمَّتۡ طَّآٮِٕفَتٰنِ مِنۡكُمۡ اَنۡ تَفۡشَلَا ۙ وَاللّٰهُ وَلِيُّهُمَا ؕ وَعَلَى اللّٰهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُوۡنَ
تفسير ميسر:
اذكر -أيها الرسول- ما كان من أمر بني سَلِمة وبني حارثة حين حدثتهم أنفسهم بالرجوع مع زعيمهم المنافق عبد الله بن أُبيٍّ؛ خوفًا من لقاء العدو، ولكن الله عصمهم وحفظهم، فساروا معك متوكلين على الله. وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون.
قوله تعالى "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الآية. قال البخاري; حدثنا علي بن عبدالله حدثنا سفيان قال; قال عمر سمعت جابر بن عبدالله يقول; فينا نزلت "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الآية. قال; نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب - وقال سفيان مرة - وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى "والله وليهما". وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وكذا قال غير واحد من السلف إنهم بنو حارثة وبنو سلمة.
قوله تعالى ; إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنونالعامل في " إذ - تبوئ " أو " سميع عليم " . والطائفتان ; بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر يوم أحد . ومعنى أن تفشلا أن تجبنا . وفي البخاري عن جابر قال ; فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما قال ; نحن الطائفتان ; بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل ; لقول الله عز وجل ; والله وليهما . وقيل ; هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت ، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس . والفشل عبارة عن الجبن ; وكذلك هو في اللغة . والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا ; فذلك قوله تعالى ; والله وليهما يعني حافظ قلوبهما عن تحقيق هذا الهم . وقيل ; أرادوا التقاعد عن الخروج ، وكان ذلك صغيرة منهم . وقيل ; كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة ; ولم يكن ذلك الخور مكتسبا لهم فعصمهم الله ، وذم بعضهم بعضا ، ونهضوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أطل على المشركين ، وكان خروجه من المدينة في ألف ، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل مغاضبا ; إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو ، وكان رأيه وافق رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى ذلك أكثر الأنصار ، وسيأتي . ونهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة . قال مالك رحمه الله ; قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم . والمقاعد ; جمع مقعد [ ص; 177 ] وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة مواقف ، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت ; ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا . هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار ، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء . وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خالد بن الوليد ، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس . وفيها جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه - صلى الله عليه وسلم - وجزاه عن أمته بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره . وكان الذي تولى ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن قميئة الليثي ، وعتبة بن أبي وقاص . وقد قيل ; إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جبهته . قال الواقدي ; والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن قميئة ، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص . قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال ; سمعت رجلا من المهاجرين يقول ; شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطها كل ذلك يصرف عنه . ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا . وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان فقال ; والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع ! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك . وأكبت الحجارة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سقط في حفرة ، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين ، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدم ، ونشبت حلقتان من درع المغفر في وجهه - صلى الله عليه وسلم - فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيته فسقطتا ; فكان أهتم يزينه هتمه - رضي الله عنه - . وفي هذه الغزاة قتل حمزة - رضي الله عنه - ، قتله وحشي ، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم . وقد كان جبير قال له ; إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل ، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق ، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر . فقال وحشي ; أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد . وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله . وأما حمزة فرجل شجاع ، وعسى أن أصادفه فأقتله . وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت ; إيها أبا دسمة اشف واستشف . فكمن له خلف صخرة ، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين ; فلما رجع من حملته ومر بوحشي زرقه بالمزراق فأصابه فسقط ميتا رحمه الله ورضي عنه . قال ابن إسحاق ; فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت ; [ ص; 178 ]نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبرولا أخي وعمه وبكري شفيت نفسي وقضيت نذريشفيت وحشي غليل صدري فشكر وحشي علي عمريحتى ترم أعظمي في قبريفأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فقالت ;خزيت في بدر وبعد بدر يا بنت وقاع عظيم الكفرصبحك الله غداة الفجر ملهاشميين الطوال الزهربكل قطاع حسام يفري حمزة ليثي وعلي صقريإذ رام شيب وأبوك غدري فخضبا منه ضواحي النحرونذرك السوء فشر نذروقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة - رضي الله عنه - ;بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويلعلى أسد الإله غداة قالوا أحمزة ذاكم الرجل القتيلأصيب المسلمون به جميعا هناك وقد أصيب به الرسولأبا يعلى لك الأركان هدت وأنت الماجد البر الوصولعليك سلام ربك في جنان مخالطها نعيم لا يزولألا يا هاشم الأخيار صبرا فكل فعالكم حسن جميلرسول الله مصطبر كريم بأمر الله ينطق إذ يقولألا من مبلغ عني لؤيا فبعد اليوم دائلة تدولوقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا وقائعنا بها يشفى الغليلنسيتم ضربنا بقليب بدر غداة أتاكم الموت العجيلغداة ثوى أبو جهل صريعا عليه الطير حائمة تجولوعتبة وابنه خرا جميعا وشيبة عضه السيف الصقيلومتركنا أمية مجلعبا وفي حيزومه لدن نبيلوهام بني ربيعة سائلوها ففي أسيافنا منها فلولألا يا هند لا تبدي شماتا بحمزة إن عزكم ذليلألا يا هند فابكي لا تملي فأنت الواله العبرى الهبول[ ص; 179 ] ورثته أيضا أخته صفية ، وذلك مذكور في السيرة ، رضي الله عنهم أجمعين .قوله تعالى ; وعلى الله فليتوكل المؤمنون فيه مسألة واحدة ، وهي بيان التوكل . والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير . وواكل فلان إذا ضيع أمره متكلا على غيره .واختلف العلماء في حقيقة التوكل ; فسئل عنه سهل بن عبد الله فقال ; قالت فرقة الرضا بالضمان ، وقطع الطمع من المخلوقين . وقال قوم ; التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب ; فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل . قال سهل ; من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله عز وجل يقول ; فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فالغنيمة اكتساب . وقال تعالى ; فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان فهذا عمل . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله يحب العبد المحترف . وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرضون على السرية . وقال غيره ; وهذا قول عامة الفقهاء ، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة . وإلى هذا ذهب محققو الصوفية ، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب ; فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى ، والكل منه وبمشيئته ; ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم . ثم المتوكلون على حالين ; الأول ; حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر . الثاني ; حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية ، والبراهين القطعية ، والأذواق الحالية ; فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ، ويلحقه بدرجات العارفين .
القول في تأويل قوله ; وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)قال أبو جعفر; يعني جل ثناؤه بقوله; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين "، وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم، أيها المؤمنون، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئًا، ولكن الله ينصرُكم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم، أيها المؤمنون، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نـزل بكم بأحُد، واذكروا ذلك اليوم، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين.=فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحُد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم.=وأخرج الخطاب في قوله; " وإذ غدوت من أهلك "، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه; الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بيَّن إذًا أن قوله; " وإذ "، إنما جرَّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.* * *وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله; " وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال ".فقال بعضهم; عنى بذلك يوم أحُد.*ذكر من قال ذلك;7708- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال "، قال; مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين.7709- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال "، ذلك يوم أحد، غدا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.7710- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال "، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.7711- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال "، فهو يوم أحد.7712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين "، قال; هذا يوم أحد.7713- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق; مما نـزل في يوم أحد; " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين ". (61)* * *وقال آخرون; عنى بذلك يوم الأحزاب.*ذكر من قال ذلك;7714- حدثني محمد بن سنان القزاز قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، &; 7-161 &; حدثنا عباد، عن الحسن في قوله; " وإذ غدوتَ من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال "، قال; يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، غدا يبوئ المؤمنين مقاعدَ للقتال يوم الأحزاب.* * *قال أبو جعفر; وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال; " عنى بذلك يوم أحد ". لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها; إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عُنى بالطائفتين; بنو سلمة وبنو حارثة، (62) ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّ الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد، دون يوم الأحزاب.* * *فإن قال لنا قائل; وكيف يكون ذلك يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَاح إلى أحُد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي حدثكم;-7715- ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلَّى الجمعة إلى أحُد، دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقال; " ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل "؟. (63)* * *قيل; إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحًا، (64) فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدَهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوّه. وذلك أنّ المشركين نـزلوا منـزلهم من أحُد -فيما بلغنا- يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويومَ الخميس ويومَ الجمعة، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة، بعد ما صَلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشِّعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال.7716- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. (65)* * *فإن قال; وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعدَ للقتال غُدُوًّا قبل خروجه، وقد علمت أن " التبوئة "، اتخاذ الموضع.قيل; كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم، بيوم أو يومين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنـزول المشركين من قريش وأتباعها أحُدًا قال = فيما;-7717- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي = لأصحابه; " أشيروا عليَّ ما أصنع؟" فقالوا; يا رسول الله، اخرج إلى هذه الأكلُب! فقالت الأنصار; يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌّ لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال; يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب! &; 7-163 &; وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال; يا رسول الله لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له; بم؟ قال; بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفرُّ من الزحف! قال; " صدقت ". فقُتل يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا وقالوا; بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا; اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم; لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. (66)7718- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، قالوا; لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نـزلوا منـزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم; " إنّي قد رأيتُ بقرًا فأوّلتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمًا، (67) ورأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نـزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ". وكان رأيُ عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك; أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه; يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبُنَّا عنهم وضعُفنا! فقال عبد الله بن أبى ابن سلول; يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله &; 7-164 &; ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه، فدعْهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبِس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رَجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمرهم حُبُّ لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته. (68) .* * *فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعدَ للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا، على ما وصفه الذين حكينا قولهم.* * *يقال منه; " بوَّأت القوم منـزلا وبوّأته لهم، فأنا أبوِّئهم المنـزل تبوئة، وأبوئ لهم منـزلا تبوئة ".وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود; ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِِ )، وذلك جائز، كما يقال; " رَدِفَك ورَدِفَ لك "، و " نقدت لها صَداقها ونقدتها "، كما قال الشاعر;أَسْـتغِفرُ اللـهَ ذَنْبًـا لَسْـتُ مُحْصِيَـهُرَبَّ العِبَــادِ إِلَيْـهِ الوَجْـهُ وَالعَمَـلُ (69)والكلام; أستغفر الله لذنب. (70) وقد حكي عن العرب سماعًا; " أبأت القوم منـزلا فأنا أبيئهم إباءة "، ويقال منه; " أبأت الإبل ". إذا رددتها إلى المباءة. و " المباءة "، المُرَاح الذي تبيت فيه.* * *" والمقاعد " جمع " مقعد "، وهو المجلس.* * *قال أبو جعفر; فتأويل الكلام; واذكر إذ غدوت، يا محمد، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرًا وموضعًا لقتال عدوهم.* * *وقوله; " والله سميع عليم "، يعني بذلك تعالى ذكره; " والله سميع "، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه، من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم، من قول من قال; " اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة "، وقول من قال لك; " لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا "، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد = (71) " عليم " بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم، كما;-7719- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله; " والله سميع عليم "، أي; سميع لما يقولون، عليم بما يخفون. (72)* * *---------------الهوامش ;(61) الأثر; 7713- مختصر من سيرة ابن هشام 3; 112.(62) بنو سلمة (بفتح السين وكسر اللام) ، وليس في العرب"سلمة" بكسر اللام غيرها ، وسائرها بفتح اللام. وهم بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج.(63) الأثر; 7715- إسناده في سيرة ابن هشام 3; 64 ، ثم اختصر أبو جعفر خبر ابن إسحاق الذي رواه ابن هشام في السيرة 3; 67 ، 68. واللأمة; هي الدرع الحصينة ، وسائر أداة الحرب من السلاح كالسيف والرمح. هذا وكان في المطبوعة والمخطوطة; "ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم". وهذا غير جيد ، وكأنه عجلة من الناسخ ، وأثبت نص ابن هشام.(64) الرواح; هو وقت العشى آخر النهار.(65) الأثر; 7716- جمعه أبو جعفر من مواضع متفرقة من خبر ابن إسحاق في يوم أحد.(66) الأثر; 7717- هو في تاريخ الطبري 3; 11 ، 12.(67) ذباب السيف; طرفه المتطرف الذي يضرب به. والثلم; هو الكسر في حرفه.(68) الأثر; 7718- سيرة ابن هشام 3; 66 ، 67 ، وهو السابق مباشرة للأثر السالف رقم ; 7751 ، وهو من تمامه.(69) مضى تخريجه فيما سلف 1; 169 ، وهو في معاني القرآن للفراء 1; 233.(70) هذه الفقرة من معاني القرآن للفراء 1; 233.(71) في المخطوطة والمطبوعة; " ومما تشير به. . ." ، والصواب الذي يقتضيه السياق ، هو ما أثبت.(72) الأثر; 7719- سيرة ابن هشام 3; 112 ، وهو تابع الأثر السالف رقم; 7713.
ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه، لما { همت طائفتان } من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين، فلهذا قال { والله وليهما } أي: بولايته الخاصة، التي هي لطفه بأوليائه، وتوفيقهم لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم، فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما، لما معهما من الإيمان كما قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } ثم قال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ففيها الأمر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من غيرهم، وخصوصا في مواطن الشدة والقتال، فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصار له، والتبري من حولهم وقوتهم، والاعتماد على حول الله وقوته، فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن، ثم قال تعالى:
(إذ) اسم ظرفيّ في محلّ نصب بدل من إذ الوارد في الآية السابقة ،
(همّت) فعل ماض ... والتاء للتأنيث
(طائفتان) فاعل مرفوع وعلامة الرفع الألف
(من) حرف جرّ و (كم) ضمير في محلّ جرّ متعلّق بمحذوف نعت لـ (طائفتان) ،
(أن) حرف مصدري ونصبـ (تفشلا) مضارع منصوب وعلامة النصب حذف النون ... و (الألف) ضمير مبنيّ في محلّ رفع فاعل.
والمصدر المؤوّلـ (أن تفشلا) في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف هو الباء، والجارّ متعلّق بـ (همّت) .
(الواو) استئنافيّة أو حاليّة
(الله) لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع
(وليّ) خبر مرفوع و (هما) ضمير في محلّ جرّ مضاف إليه
(الواو) عاطفة
(على الله) جارّ ومجرور متعلّق بـ (يتوكّل) » ،
(الفاء) رابطة لجواب شرط مقدّر » .
(اللام) لام الأمر
(يتوكّل) مضارع مجزوم وحرّك بالكسر لالتقاء الساكنين
(المؤمنون) فاعل مرفوع وعلامة الرفع الواو.
جملة: «همّت طائفتان» في محلّ جرّ مضاف إليه.
وجملة: «تفشلا» لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) .وجملة: «الله وليّهما» لا محلّ لها استئنافيّة- أو في محلّ نصب حال-.
وجملة: «يتوكّل المؤمنون» جواب شرط مقدّر ، وجملة الشرط المقدّرة معطوفة على جملة الله وليّهما.