وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِىٓ إِسْرٰٓءِيلَ
وَتِلۡكَ نِعۡمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ اَنۡ عَبَّدْتَّ بَنِىۡۤ اِسۡرَآءِيۡلَ
تفسير ميسر:
قال موسى مجيبًا لفرعون; فعلتُ ما ذكرتَ قبل أن يوحي الله إلي، ويبعثني رسولا فخرجت من بينكم فارًّا إلى "مدين"، لـمَّا خفت أن تقتلوني بما فعلتُ من غير عَمْد، فوهب لي ربي تفضلا منه النبوة والعلم، وجعلني من المرسلين. وتلك التربية في بيتك تَعُدُّها نعمة منك عليَّ، وقد جعلت بني إسرائيل عبيدًا تذبح أبناءهم وتستحيي نساءهم؟
ثم قال موسى "وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل" أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
قوله تعالى ; وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل اختلف الناس في معنى هذا الكلام ; فقال السدي والطبري والفراء ; هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة ; كأنه يقول ; نعم ، وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وقيل ; هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار ; أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست بنعمة ; لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي ; فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص ؟ قال معناه قتادة وغيره . وقيل ; فيه تقدير استفهام ; أي أوتلك نعمة ؟ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره . قال النحاس ; وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى ، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام " أم " كما قال الشاعر ;تروح من الحي أم تبتكرولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء . قال ; يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك ، وحكي ; ترى زيدا منطلقا ؟ بمعنى ; أترى . وكان علي بن سليمان يقول في هذا ; إنما أخذه من ألفاظ العامة . قال الثعلبي ; قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه ; أوتلك نعمة ؟ على طريق الاستفهام ; كقوله ; " هذا ربي " " فهم الخالدون " قال الشاعر ; [ أبو خراش الهذلي ]رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم[ ص; 92 ] وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم ;لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرقوقولها والركاب واقفة تركتني هكذا وتنطلققلت ; ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم " أم " خلاف قول النحاس . وقال الضحاك ; إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ; والمعنى ; لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ; فأي نعمة لك علي ! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به . وقيل ; معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي ؟ ومن أهين قومه ذل . و ( أن عبدت ) في موضع رفع على البدل من " نعمة " ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى ; لأن عبدت بني إسرائيل ; أي اتخذتهم عبيدا . يقال ; عبدته وأعبدته ، بمعنى ; قاله الفراء وأنشد ;علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) يعني بقوله; وتلك تربية فرعون إياه, يقول; وتربيتك إياي, وتركك استعبادي, كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه, وهو; وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني, فلم تستعبدني, فترك ذكر " وتركتني" لدلالة قوله ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) عليه, والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام, ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة, فيعاقب أحدهما, ويعفو عن الآخر, فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا, وتركني, ثم حذف " وتركني" لدلالة الكلام عليه, ولأن في قوله; ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجهين; أحدهما النصب, لتعلق " تمنها " بها, وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام; وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل. والآخر; الرفع على أنها ردّ على النعمة. وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام; وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل. ويعني بقوله; ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ; أن اتخذتهم عبيدا لك. يقال منه; عبدت العبيد وأعبدتهم, قال الشاعر;عَـلامَ يُعْبِـدنِي قَـومِي وقـدْ كَـثُرَتْفِيهــا أبـاعِرُ مـا شـاءُوا وَعُبْـدَانُ (1)وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن عمرو, قال; ثنا أبو عاصم, قال; ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال; ثنا الحسن, قال; ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد; ( تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال; قهرتهم واستعملتهم.حدثنا القاسم, قال; ثنا الحسين, قال; ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال; تمن علي أن عبَّدت بني إسرائيل, قال; قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل.حدثنا موسى بن هارون, قال; ثنا عمرو, قال; ثنا أسباط, عن السديّ; ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وربيتني قبل وليدا.وقال آخرون; هذا استفهام كان من موسى لفرعون, كأنه قال; أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا.* ذكر من قال ذلك;حدثنا الحسن, قال; أخبرنا عبد الرزاق, قال; أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله; ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) قال; يقول موسى لفرعون; أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا.واختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي البصرة; وتلك نعمة تمنها عليّ, فيقال; هذا استفهام كأنه قال; أتمنها علي؟ ثم فسر فقال; ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجعله بدلا من النعمة. وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول, ويقول; هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى, وهو يطلب, فيكون الاستفهام كالخبر, قال; وقد استقبح ومعه أم, وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا;تَــرُوحُ مــنَ الحَــيّ أمْ تَبْتَكــرْوَمــاذَا يَضُــرُّكَ لَــوْ تَنْتظــرْ? (2)قال; وقال بعضهم; هو أتروح من الحيّ, وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم. وقال أكثرهم; بل الأوّل خبر, والثاني استفهام, وكأن " أم " إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف, فأما وليس معه أم, فلم يقله إنسان.وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا. وقال; معنى الكلام; وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي; أي لنعمة تربيتي لك, فأجابه فقال; نعم هي نعمة عليّ أن عبدت الناس ولم تستعبدني.------------------------الهوامش ;(1) البيت من شواهد (اللسان; عبد) قال; تعبد الرجل (وعبده) بتشديد الباء فيهما، وأعبده; صيره كالعبد. قال الشاعر; "ختام يعبدني قومي.." البيت.(2) البيت; لامرىء القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 115) تروح; أتروح، وتبتكر; تخرج مبكرًا. يقول; أتروح إلى أهلك آخر النهار، أم تخرج إليهم بكرة، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام اكتفاء بدلالة أم عليه. وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. ويمنعه فيما يلبس بالخبر.
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ . أي: تدلي علي بهذه المنة لأنك سخرت بني إسرائيل, وجعلتهم لك بمنزلة العبيد، وأنا قد أسلمتني من تعبيدك وتسخيرك, وجعلتها علي نعمة، فعند التصور, يتبين أن الحقيقة, أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل, وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك، وأنا قد سلمني الله من أذاك, مع وصول أذاك لقومي، فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها؟.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة