وَعَلَّمْنٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنۢ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شٰكِرُونَ
وَعَلَّمۡنٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوۡسٍ لَّـكُمۡ لِتُحۡصِنَكُمۡ مِّنۡۢ بَاۡسِكُمۡۚ فَهَلۡ اَنۡـتُمۡ شٰكِرُوۡنَ
تفسير ميسر:
واختصَّ الله داود عليه السلام بأن علَّمه صناعة الدروع يعملها حِلَقًا متشابكة، تسهِّل حركة الجسم؛ لتحمي المحاربين مِن وَقْع السلاح فيهم، فهل أنتم شاكرون نعمة الله عليكم حيث أجراها على يد عبده داود؟
وقوله " وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم " يعني صنعة الدروع قال قتادة إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقا كما قال تعالى " وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد " أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ولهذا قال " لتحصنكم من بأسكم " يعني في القتال " فهل أنتم شاكرون " أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم.
قوله تعالى ; وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرونفيه ثلاث مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; وعلمناه صنعة لبوس لكم يعني اتخاذ الدروع بإلانة [ ص; 227 ] الحديد له ، واللبوس عند العرب السلاح كله ؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا . قال الهذلي يصف رمحا ;ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفلواللبوس كل ما يلبس ، وأنشد ابن السكيت ;البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسهاوأراد الله تعالى هنا الدرع ، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب . قال قتادة ; أول من صنع الدروع داود . وإنما كانت صفائح ، فهو أول من سردها وحلقها .الثانية ; قوله تعالى ; ( ليحصنكم ) ليحرزكم . من بأسكم أي من حربكم . وقيل ; من السيف والسهم والرمح ، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف . ابن عباس ; من بأسكم من سلاحكم . الضحاك ; من حرب أعدائكم . والمعنى واحد . وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح لتحصنكم بالتاء ردا على الصفة . وقيل ; على اللبوس والمنعة التي هي الدروع . وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق ( لنحصنكم ) بالنون لقوله ; وعلمناه . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس ، أو يكون المعنى ليحصنكم الله . فهل أنتم شاكرون أي على تيسير نعمة الدروع لكم . وقيل ; فهل أنتم شاكرون بأن تطيعوا رسولي .الثالثة ; هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب ، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة . وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود - عليه السلام - أنه كان يصنع الدروع ، وكان أيضا يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدم حراثا ، ونوح نجارا ، ولقمان خياطا ، وطالوت دباغا . وقيل ; سقاء ؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس . وفي الحديث ; إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ( الفرقان ) وقد تقدم في غير [ ص; 228 ] ما آية ، وفيه كفاية والحمد لله .
يقول تعالى ذكره; وعلمنا داود صنعة لبوس لكم، واللبوس عند العرب; السلاح كله، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدلّ على ذلك قول الهُذليّ;وَمَعِـــي لَبُـــوسٌ لِلَّبِيسِ كأنَّــهُرَوقٌ بِجَبْهَــةِ ذِي نِعــاجٍ مُجْــفِلِ (2)وإنما يصف بذلك رمحا، وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا; عنى الدروع.* ذكر من قال ذلك;حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ )... الآية، قال; كانت قبل داود صفائح، قال; وكان أوّل من صنع هذا الحلق وسرد داود.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ) قال; كانت صفائح، فأوّل من سَرَدَها وحَلَّقها داود عليه السلام.واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لِتُحْصِنَكُمْ) فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار ( لِيُحْصِنَكُمْ ) بالياء، بمعنى; ليحصنكم اللَّبوس من بأسكم، ذَكَّروه لتذكير اللَّبوس، وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع (لِتُحْصِنَكُمْ) بالتاء، بمعنى; لتحصنكم الصنعة، فأنث لتأنيث الصنعة، وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النَّجود ( لِنُحْصِنَكُمْ) بالنون، بمعنى; لنحصنكم نحن من بأسكم.قال أبو جعفر; وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالياء، لأنها القراءة التي عليها الحجة من قرّاء الأمصار، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني، وذلك أن الصنعة هي اللبوس، واللَّبوس هي الصنعة، والله هو المحصن به من البأس، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك، ومعنى قوله; (لِيُحْصِنَكُمْ) ليحرزكم، وهو من قوله; قد أحصن فلان جاريته، وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، والبأس; القتال، وعلَّمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه، ولقيتم فيه أعداءكم من القتل.وقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) يقول; فهل أنتم أيها الناس شاكرو الله على نعمته عليكم بما علَّمكم من صنعة اللبوس المحصن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم، يقول; فاشكروني على ذلك.------------------------الهوامش ;(2) البيت في ( اللسان ; لبس ) . واللبوس ; ما يلبس ، واللبوس ; الثياب والسلاح ، مذكر ، فإن ذهبت به إلى الدرع أنثت وقال الله تعالى ; ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) ; قالوا ; هي الدرع تلبس في الحروب .واستشهد المؤلف بالبيت على أن اللبوس عام في السلاح كله ; الدرع والسيف والرمح والجوشن . والتشبيه في البيت يعطي ما قاله المؤلف ، لأن الشاعر يشبه رمحا بروق الثور المجفل ، يدافع عن نعاجه ، وهي بقر الوحش .
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أي: علم الله داود عليه السلام، صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألان الله له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة، { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس. { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة الله عليكم، حيث أجراها على يد عبده داود، كما قال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة، وأن يكون - كما قاله المفسرون-: إن الله ألان له الحديد، حتى كان يعمله كالعجين والطين، من دون إذابة له على النار، ويحتمل أن تعليم الله له، على جاري العادة، وأن إلانة الحديد له، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن، لإذابتها، وهذا هو الظاهر، لأن الله امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها، ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد، لم يمتن عليهم بذلك، ويذكر فائدتها، لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام، متعذر أن يكون المراد أعيانها، وإنما المنة بالجنس، والاحتمال الذي ذكره المفسرون، لا دليل عليه إلا قوله: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن الإلانة من دون سبب، والله أعلم بذلك.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة