ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنۢ بَعْدِ ذٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ الْخٰسِرِينَ
ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ مِّنۡۢ بَعۡدِ ذٰلِكَۚ فَلَوۡلَا فَضۡلُ اللّٰهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهٗ لَـكُنۡتُمۡ مِّنَ الۡخٰسِرِيۡنَ
تفسير ميسر:
ثم خالفتم وعصيتم مرة أخرى، بعد أَخْذِ الميثاق ورَفْع الجبل كشأنكم دائمًا. فلولا فَضْلُ الله عليكم ورحمته بالتوبة، والتجاوز عن خطاياكم، لصرتم من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى "ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم" يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه "فلولا فضل الله عليكم ورحمته" أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم "لكنتم من الخاسرين" بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى ; ثم توليتم تولى تفعل ، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء ومجازا .وقوله ; من بعد ذلك أي ; من بعد البرهان ، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل . وقوله ; فلولا فضل الله عليكم " فضل " مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره ؛ لأن العرب استغنت عن إظهاره ، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا ب " أن " ، فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر . والتقدير ; فلولا فضل الله تدارككم ." ورحمته " عطف على فضل أي ; لطفه وإمهاله . " لكنتم " جواب " لولا " " من الخاسرين " خبر كنتم . والخسران ; النقصان ، وقد تقدم . وقيل ; فضله قبول التوبة ، ورحمته العفو . والفضل ; الزيادة على ما وجب . والإفضال ; فعل ما لم يجب . قال ابن فارس في المجمل ; الفضل الزيادة والخير ، والإفضال ; الإحسان .
القول في تأويل قوله تعالى ; ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَقال أبو جعفر; يعني بقوله جل ثناؤه; (ثم توليتم); ثم أعرضتم. وإنما هو " تفعلتم " من قولهم; " ولاني فلان دبره " إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. (36) يقال; " قد تولى فلان عن طاعة فلان, وتولى عن مواصلته "، ومنه قول الله جل ثناؤه; فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ التوبة; 76]، يعني بذلك; خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم; لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ &; 2-163 &; [ التوبة; 75]، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم* * *ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها, كما قال أبو خراش الهذلي; (37)فليس كعهــد الــدار يـا أم مـالكولكـن أحـاطت بالرقـاب السلاسـل (38)وعــاد الفتـى كـالكهل ليس بقـائلسـوى الحق شيئا واسـتراح العواذل (39)يعني بقوله; " أحاطت بالرقاب السلاسل "، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنـزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله; (ثم توليتم &; 2-164 &; من بعد ذلك)، يعني بذلك; أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.وكنى بقوله جل ذكره; " ذلك "، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة, أعني قوله; وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُقال أبو جعفر; يعني بقوله جل ذكره; (فلولا فضل الله عليكم)، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة = بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته, وأداء فرائضه, والقيام بما أمركم به, والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم, فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم = لكنتم من الخاسرين.وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنما هو خبر عن أسلافهم, فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب, فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها, فتقول; فعلنا بكم, وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. (40)* * *وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل, فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.* * *وقال بعضهم; إنما قيل ذلك كذلك, لأن سامعيه كانوا عالمين -وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- (41) أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر; (42)إذ مــا انتسـبنا لـم تلـدني لئيمـةولـم تجـدي مـن أن تقـري بـه بدا (43)فقال; " إذا ما انتسبنا ", و " إذا " تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال; " لم تلدني لئيمة ", فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.* * *وكان أبو العالية يقول في قوله; (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.1136 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر, عن الربيع, عن أبي العالية; (فلولا فضل الله عليكم ورحمته)، قال; " فضل الله "، الإسلام," ورحمته "، القرآن.1137 - وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [عن أبيه], عن الربيع بمثله. (44)* * *القول في تأويل قوله تعالى ; لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)قال أبو جعفر; فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما, الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى " الخسار " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (45)----------------الهوامش ;(36) في المطبوعة ; "طاعة أمر ; عز وجل" ، بزيادة الثناء على ربنا سبحانه ، وعلى أن"أمر" مبني للمعلوم . وهذا مخالف للسياق ، وسهو من النساخ .(37) كان في المطبوعة ; "قال أبو ذؤيب الهذلي" ، وهو خطأ فاضح ، لا يقع في مثله مثل أبي جعفر .(38) ديوان الهذليين 2 ; 150 ، وسيرة ابن هشام 4 ; 116 ، والأغاني 21 ; 41 ، والكامل 1 ; 267 . وهي أبيات جياد في رثاء صديق . وذلك أن زهير بن العجوة الهذلي من بني عمرو بن الحارث - وكان ابن عم ابي خراش ، وله صديقا - خرج يطلب الغنائم يوم حنين فأسر ، وكتف في أناس أخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآه جميل بن معمر الجمحي - وكانت بينهما إحنة في الجاهلية - فقال له ; أنت الماشي لنا بالمغايظ؟ فضرب عنقه ، فقال أبو خراش يرثيه . وقال لجميل بن معمر ;وإنــك لــو واجهتــه إذ لقيتــهفنازلتــه, أو كــنت ممـن ينـازللظــل جــميل أسـوأ القـوم تلـةولكـن قـرن الظهـر للمـرء شـاغلفليس كعهــــد . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .وفي المطبوعة ; "فليس لعهد الدار" خطأ . ويعني بقوله ; "الدار" ; مكة وما حولها وما جاورها . يقول ; ليس الأمر كما عهدت بها وعهدتا ، جاء الإسلام فهدم ذلك كله .(39) يقول ; فارق الفتى أخلاق فتوته وعرامه ، وصار كالكهل في أناته وتثبته ، فإن الدين قد وقذ الفتيان ذوى البأس وسكنهم من مخافة عقاب ربهم في القتل من غير قتال ومعركة . فاستراحت العواذل لأنهن أصبحن لا يجدن ما يعذلن فيه أزواجهن من التعرض للهلاك .(40) انظر ما مضى في هذا الجزء 2 ; 38 - 39 .(41) في المطبوعة ; "إذ المعنى في ذلك . . " ، وهو كلام لا يستقيم . وسياق الجملة يقتضي أن توضع"أن" مكان"إذ" أي ; "لأن سامعيه كانوا عالمين . . أن المعنى في ذلك . . " ، وما بينهما فصل واعتراض .(42) في حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1 ; 25 قال ; "في حاشية السيوطي" قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي ، يعرض بزوجته ، وكانت أمها سرية" ، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى ; 33 .(43) سيأتي في هذا الجزء 1 ; 333 (بولاق) ، وفي 3 ; 49 (بولاق) ، ومعانى الفراء ; 61 ، 178 وقبل البيت يقول لامرأته .رمتنـى عـن قـوس العـدو, وباعدتعبيــدة, زاد اللـه مـا بيننـا بعـدا(44) ما بين القوسين زيادة لا بد منها ، وانظر آخر إسناد عن عمار بن الحسن رقم ; 1134 .(45) انظر ما مضى 1 ; 417 .
فبعد هذا التأكيد البليغ { تَوَلَّيْتُمْ } وأعرضتم, وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات، ولكن { لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(ثمّ) حرف عطف
(تولّيتم) فعل ماض مبنيّ على السكون.. وفاعله
(من بعد) جارّ ومجرور متعلّق بـ (تولّيتم) ،
(ذا) اسم إشارة مبنيّ في محلّ جرّ مضاف إليه و (اللام) للبعد و (الكاف) للخطاب(الفاء) استئنافيّة
(لولا) حرف امتناع لوجود، شرط غير جازم
(فضل) مبتدأ مرفوع، والخبر محذوف وجوبا تقديره موجود
(الله) لفظ الجلالة مضاف إليه مجرور
(على) حرف جرّ و (كم) ضمير متّصل في محلّ جرّ متعلّق بـ (فضل) ،
(الواو) عاطفة
(رحمة) معطوفة على فضل مرفوع مثله و (الهاء) مضاف إليه،
(اللام) واقعة في جواب لولا
(كنتم) فعل ماض ناقص مبنيّ على السكون.. و (تم) ضمير متّصل اسم كان
(من الخاسرين) جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر كنتم وعلامة الجرّ الياءجملة: تولّيتم في محلّ جرّ معطوفة على جملة أخذنا في الآية السابقة وجملة: «لولا فضل الله ... » لا محلّ لها استئنافيّة وجملة: «كنتم من الخاسرين» لا محلّ لها جواب شرط غير جازم