وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيٰوةٌ يٰٓأُولِى الْأَلْبٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وَ لَـكُمۡ فِى الۡقِصَاصِ حَيٰوةٌ يّٰٓـاُولِىۡ الۡاَلۡبَابِ لَعَلَّکُمۡ تَتَّقُوۡنَ
تفسير ميسر:
ولكم في تشريع القصاص وتنفيذه حياة آمنة -يا أصحاب العقول السليمة-؛ رجاء تقوى الله وخشيته بطاعته دائمًا.
وقوله "ولكم في القصاص حياة" يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وفي الكتب المتقدمة; القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة" قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان" يا أولى الألباب لعلكم تتقون" يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه والتقوى أسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
قوله تعالى ; ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقونفيه أربع مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; ولكم في القصاص حياة هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم ، ومعناه ; لا يقتل بعضكم بعضا ، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك ، والمعنى ; أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر ، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة .الثانية ; اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .[ ص; 240 ] الثالثة ; وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته ، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل ، لقوله جل ذكره ; كتب عليكم القصاص في القتلى وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده ; لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال ; بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ; [ تعال ] فاستقد . قال ; بل عفوت يا رسول الله ، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال ; خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ; ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه ، فقام عمرو بن العاص فقال ; يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال ; كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ، ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال ; خطبنا عمر بن الخطاب فقال ; إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه ، وذكر الحديث بمعناه .الرابعة ; قوله تعالى ; لعلكم تتقون تقدم معناه . والمراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة ، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي " ولكم في القصص حياة " . قال النحاس ; قراءة أبي الجوزاء شاذة . قال غيره ; يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص . وقيل ; أراد بالقصص القرآن ، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة ، أي نجاة .
القول في تأويل قوله تعالى ; وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِقال أبو جعفر; يعني تعالى ذكره بقوله; " ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب "، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (70)* * *واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.* ذكر من قال ذلك;2617- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله; " ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب " قال، نكالٌ, تَناهٍ.2618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله; " ولكم في القصاص حياة " قال، نكالٌ, تَناهٍ.2619- حدثني المثنى قال; حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2620- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة; " ولكم في القصاص حياة "، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها, ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين, والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.2621- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله; " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال، قد جعل الله في القصاص حياة, إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.2622- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله; " ولكم في القصاص حياة " الآية, يقول; جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.2623- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله; " ولكم في القصاص حياة " قال، نكالٌ, تناهٍ. قال ابن جريج; حَياةٌ. مَنعةٌ.2624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله; " ولكم في القصاص حياة " قال، حياةٌ، بقية. (71) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني, لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي, فيذكر أن يُقْتَل في القصاص, فيخشى أن يقتل بي, فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.2625- حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح في قوله; " ولكم في القصاص حياة " قال، بقاء.* * *وقال آخرون; معنى ذلك; ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر, وبالعبد الحرّ.* ذكر من قال ذلك;2626- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي; " ولكم في القصاص حياة "، يقول; بقاء, لا يقتل إلا القاتل بجنايته.* * *وأما تأويل قوله; " يا أولي الألباب "، فإنه; يا أولي العقول." والألباب " جمع " اللب ", و " اللب " العقل.* * *وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول, لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.* * *القول في تأويل قوله تعالى ; لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)قال أبو جعفر; وتأويل قوله; " لعلكم تتقون "، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما;-269- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله; " لعلكم تتقون " قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.---------------------الهوامش ;(70) قدعه يقدعه قدعًا ; كفه . ومنه ; "اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة" ، أي كفوها عما تشتهي وتريد .(71) بقية ; أي إبقاء . وأخشى أن تكون"تقية" بالتاء ، أي اتقاء ، كما يدل عليه سائر الأثر . وكلتاهما صحيحة المعنى .
يمتن تعالى على عباده المؤمنين, بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي: المساواة فيه, وأن يقتل القاتل على الصفة, التي قتل عليها المقتول, إقامة للعدل والقسط بين العباد. وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين, فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول, إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل, وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد, ويمنعوا الولي من الاقتصاص, كما عليه عادة الجاهلية, ومن أشبههم من إيواء المحدثين. ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها, الذكر بالذكر، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر, والذكر بالأنثى, فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله: \" الأنثى بالأنثى \" مع دلالة السنة, على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا، فلا يقتلان بالولد, لورود السنة بذلك، مع أن في قوله: { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل, أن يقتل الوالد بولده، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة, ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله, أو أذية شديدة جدا من الولد له. وخرج من العموم أيضا, الكافر بالسنة, مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة. وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، والعبد بالعبد, ذكرا كان أو أنثى, تساوت قيمتهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر, لا يقتل بالعبد, لكونه غير مساو له، والأنثى بالأنثى, أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة, وتقدم وجه ذلك. وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل, وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية, أو عفا بعض الأولياء, فإنه يسقط القصاص, وتجب الدية, وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي. فإذا عفا عنه وجب على الولي, [أي: ولي المقتول] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه, ولا يحمله ما لا يطيق, بل يحسن الاقتضاء والطلب, ولا يحرجه. وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص, ولا إساءة فعلية أو قولية, فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو, إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق, بالأداء بإحسان وفي قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجانا. وفي قوله: { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر, لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان, فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر, لا يكفر بها فاعلها, وإنما ينقص بذلك إيمانه. وإذا عفا أولياء المقتول, أو عفا بعضهم, احتقن دم القاتل, وصار معصوما منهم ومن غيرهم, ولهذا قال: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الآخرة، وأما قتله وعدمه, فيؤخذ مما تقدم, لأنه قتل مكافئا له, فيجب قتله بذلك. وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل, فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله, ولا يجوز العفو عنه, وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول, لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره. ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي: تنحقن بذلك الدماء, وتنقمع به الأشقياء, لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل, لا يكاد يصدر منه القتل, وإذا رئي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر, فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل, لم يحصل انكفاف الشر, الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية, فيها من النكاية والانزجار, ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر \" الحياة \" لإفادة التعظيم والتكثير. ولما كان هذا الحكم, لا يعرف حقيقته, إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة, خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى, يحب من عباده, أن يعملوا أفكارهم وعقولهم, في تدبر ما في أحكامه من الحكم, والمصالح الدالة على كماله, وكمال حكمته وحمده, وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة, فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب, وناداهم رب الأرباب, وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون. وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.
(الواو) عاطفة
(اللام) حرف جرّ و (كم) ضمير في محلّ جرّ متعلّق بمحذوف خبر مقدّم
(في القصاص) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف حال من حياة- صفة تقدّمت على الموصوف-
(حياة) مبتدأ مؤخّر مرفوع
(يا) أداة نداء
(أولي) منادى مضاف منصوب وعلامة النصب الياء فهو ملحق بجمع المذكّر
(الألباب) مضاف إليه مجرور
(لعلّ) حرف مشبّه بالفعل للترجّي و (كم) ضمير اسم لعلّ
(تتقون) مضارع مرفوع والواو فاعل ، جملة: «لكم في القصاص حياة» لا محل لها معطوفة على جملة كتب عليكم ... وجملة: «يا أولي الألباب» لا محل لها اعتراضيّة وجملة: «لعلّكم تتّقون» لا محلّ لها تعليليّة إمّا للمذكور من جعل القصاص حياة وإمّا لمحذوف تقديره شرع لكم ذلك وجملة: «تتّقون» في محلّ رفع خبر لعلّ.