أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمٰنِ عَهْدًا
اَطَّلَعَ الۡغَيۡبَ اَمِ اتَّخَذَ عِنۡدَ الرَّحۡمٰنِ عَهۡدًا
تفسير ميسر:
أطَّلَع الغيب، فرأى أن له مالا وولدًا، أم له عند الله عهد بذلك؟
وقوله "أطلع الغيب" إنكار على هذا القائل "لأوتين مالا وولدا يعني يوم القيامة أي أعلم ما له في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك "أم اتخذ عند الرحمن عهدا" أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق وقال الضحاك عن ابن عباس "أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا" قال لا إله إلا الله فيرجو بها وقال محمد بن كعب القرظي "إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا" قال شهادة أن لا إله إلا الله ثم قرأ "إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا".
قوله تعالى ; أطلع الغيب ألفه ألف استفهام لمجيء أم بعدها ومعناه التوبيخ ، وأصله أاطلع فحذفت الألف الثانية ؛ لأنها ألف وصل . فإن قيل ; فهلا أتوا بمدة بعد الألف فقالوا ; آطلع كما قالوا آلله خير آلذكرين حرم قيل له ; كان الأصل في هذا ( أالله ) ( أالذكرين ) فأبدلوا من الألف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر ، وذلك أنهم لو قالوا الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله ; أطلع لأن ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام أطلع ؟ أفترى ؟ أصطفى ؟ أستغفرت ؟ بفتح الألف ، وتقول في الخبر ; اطلع ، افترى ، اصطفى ، استغفرت لهم بالكسر ، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال; أخبرنا عبد الرزاق، قال; أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال; قال خباب بن الأرت; كنت قينا بمكة، فكنت أعمل للعاص بن وائل، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاه ، فقال لي; لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال; قلت; لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال; فإذا بُعثت كان لي مال وولد، قال; فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تبارك وتعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) إِلَى وَيَأْتِينَا فَرْدًا .واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَوَلَدًا) فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة; (وَوَلَدًا) بفتح الواو من الولد في كلّ القرآن، غير أن أبا عمرو بن العلاء خص التي في سورة نوح بالضمّ، فقرأها( مالُهُ وَوُلْدُهُ ) وأما عامَّةُ قرّاء الكوفة غير عاصم، فإنهم قرءوا من هذه السورة من قوله (مَالا وَوَلَدًا) إلى آخر السورة. واللتين في الزخرف، والتي في نوح، بالضمِّ وسكون اللام.وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك إذا ضمت واوه، فقال بعضهم; ضمها وفتحها واحد، وإنما هما لغتان، مثل قولهم العُدم والعَدم، والحزن والحَزَن. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر;فَلَيْـتَ فُلانـا كـانَ فـي بَطْـنِ أُمِّـهِوَلَيْــتَ فُلانــا كـانَ وُلْـدَ حِمـارِ (1)ويقول الحارث بن حِلِّزة;وَلَقَــــدْ رأيْــــتُ مَعاشِـــرًاقَـــدْ ثَمَّـــرُوا مــالا وَوُلْــدًا (2)وقول رُؤْبة;الحَـــمْدُ للــهِ العَزِيــزِ فَــرْدَالَــمْ يَتَّخِـذْ مِـنْ وُلْـدِ شَـيْءٍ وُلْـدَا (3)وتقول العرب في مثلها; وُلْدُكِ مِنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ، قال; وهذا كله واحد، بمعنى الولد.وقد ذُكر لي أن قيسا تجعل الوُلْد جمعا، والوَلد واحدا .ولعلّ الذين قرءوا ذلك بالضمّ فيما اختاروا فيه الضمّ، إنما قرءوه كذلك ليفرقوا بين الجمع والواحد.قال أبو جعفر; والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي أن الفتح في الواو من الوَلد والضمّ فيها بمعنى واحد، وهما لغتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، غير أن الفتح أشهر اللغتين فيها، فالقراءة به أعجبُ إليّ لذلك.وقوله ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) يقول عزّ ذكره; أعلم هذا القائل هذا القول علم الغيب، فعلم أن له في الآخرة مالا وولدا باطلاعه على علم ما غاب عنه ( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) يقول; أم آمن بالله وعمل بما أمر به، وانتهى عما نهاه عنه ، فكان له بذلك عند الله عهدا أن يؤتيه ما يقول من المال والولد.كما حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) بعمل صالح قدّمه.-----------------------الهوامش ;(1) البيت في ( اللسان ; ولد ) ولم ينسبه . قال ; الولد والولد واحد ، مثل العرب والعرب ، والعجم ، والعجم ونحو ذلك . وأنشد الفراء ; " فليت فلانا . . . " البيت . فهذا واحد . قال ; وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد ( بالتحريك ) واحدا . ابن السكيت يقال في الولد ; الولد ( بكسر أوله ) ولا ولد ( بضم أوله ) . قال ; ويكون الولد ( بضم أوله ) واحدا وجمعا قال ; وقد يكون الولد ( بالضم ) جمع الولد ، مثل أسد وأسد . ( وهذا قريب مما نقله المؤلف عن الفراء في معاني القرآن ) .(2) البيت للحارث بن حلزة اليشكري ، وهو من شواهد ( لسان العرب ; ولد ) مثل الشاهد الذي قبله . واستشهد به الفراء أيضًا في معاني القرآن ( مصورة الجامعة رقم 24059 ص 195 ) ثم قال ; والولد والولد ; لغتان مثل ما قالوا ; العدم والعدم .(3) البيتان لرؤبة بن العجاج ، وهما من مشطور الرجز ، و الفرد ; المتفرد بالربوبية ، و بالأمر دون خلقه ، وهو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا ثاني . والبيت ساقه المؤلف مع الشاهدين السابقين عليه . شواهد على أن الولد ، بضم الواو وسكون اللام ، بمعنى الولد ، بالتحريك . وأنه مفرد ، وقد يجيء بمعنى الجمع .
قال الله، توبيخا له وتكذيبا: { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } أي: أحاط علمه بالغيب، حتى علم ما يكون، وأن من جملة ما يكون، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟ { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك، فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم له به. وهذا التقسيم والترديد، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة، لا يخلو: إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا لله وحده، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية، إلا من أطلعه الله عليه من رسله.وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله، بالإيمان به، واتباع رسله، الذين عهد الله لأهله، وأوزع أنهم أهل الآخرة، والناجون الفائزون. فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة