عَسٰى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكٰفِرِينَ حَصِيرًا
عَسٰى رَبُّكُمۡ اَنۡ يَّرۡحَمَكُمۡ ۚ وَاِنۡ عُدْتُّمۡ عُدۡنَاۘ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكٰفِرِيۡنَ حَصِيۡرًا
تفسير ميسر:
عسى ربكم -يا بني إسرائيل- أن يرحمكم بعد انتقامه إن تبتم وأصلحتم، وإن عدتم إلى الإفساد والظلم عُدْنا إلى عقابكم ومذلَّتكم. وجعلنا جهنم لكم وللكافرين عامة سجنًا لا خروج منه أبدا. وفي هذه الآية وما قبلها، تحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي؛ لئلا يصيبها مثل ما أصاب بني إسرائيل، فسنن الله واحدة لا تبدل ولا تغير.
"عسى ربكم أن يرحمكم" أي فيصرفهم عنكم "وإن عدتم عدنا" أى متى عدتم إلى الإفساد "عدنا" إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ولهذا قال "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه وقال ابن عباس; حصيرا أي سجنا وقال مجاهد; يحصرون فيها وكذا قال غيره وقال الحسن فراشا ومهادا وقال قتادة قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
قوله تعالى ; عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا [ ص; 202 ] قوله تعالى ; عسى ربكم أن يرحمكم وهذا مما أخبروا به في كتابهم . وعسى وعد من الله أن يكشف عنهم . وعسى من الله واجبة . أن يرحمكم بعد انتقامه منكم ، وكذلك كان ; فكثر عددهم وجعل منهم الملوك .وإن عدتم عدنا قال قتادة ; فعادوا فبعث الله عليهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - ; فهم يعطون الجزية بالصغار ; وروي عن ابن عباس . وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره وقال القشيري ; وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار ، ومرة على أيدي المسلمين . وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم .وعلى هذا يصح قول قتادة . وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا أي محبسا وسجنا ، من الحصر وهو الحبس . قال الجوهري ; يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به . والحصير ; الضيق البخيل . والحصير ; البارية . والحصير ; الجنب ، قال الأصمعي ; هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب . والحصير ; الملك ; لأنه محجوب . قال لبيد ;وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيامويروى ;ومقامة غلب الرقاب . . .على أن يكون ( غلب ) بدلا من ( مقامة ) كأنه قال ; ورب غلب الرقاب . وروي عن أبي عبيدة ;. . . لدى طرف الحصير قيامأي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر . والحصير ; المحبس ; قال الله - تعالى - ; وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا . قال القشيري ; ويقال للذي يفترش حصيرا ; لحصر بعضه على بعض بالنسج . وقال الحسن ; أي فراشا ومهادا ; ذهب إلى الحصير الذي يفرش ، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا . قال الثعلبي ; وهو وجه حسن .
القول في تأويل قوله تعالى ; وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)يقول تعالى ذكره; لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك، وعسى من الله; واجب، وفعل الله ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خَساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم; وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسِّباء، وإحلال الذلّ والصِّغار بكم، فعادوا، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثنا أبو كريب، قال; ثنا ابن عطية، عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال; عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. قال; فسلَّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس; سندبادان وشهربادان وآخر.حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال; قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) قال; فعادوا فسلَّط الله عليهم المؤمنين.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قال ( ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال; عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة؛ قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .... الآية، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فعادوا، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.حدثني يونس ، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قول الله تعالى ( ) قال بعد هذا(وَإِنْ عُدْتُمْ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء (عُدْنا) إليكم بمثل هذا.وقوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم; وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها.* ذكر من قال ذلك;حدثنا محمد بن مسعدة، قال; ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال; سجنا.حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال ; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول; جعل الله مأواهم فيها.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال; مَحْبِسا حَصُورا.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول; سجنا.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (حَصِيرًا) قال; يحصرون فيها.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) قال; يُحصرون فيها.حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها.حدثنا عليّ بن داود، قال; ثنا عبد الله بن صالح، قال; ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) يقول; سجنا.وقال آخرون; معناه ; وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا.* ذكر من قال ذلك;حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال ; قال الحسن; الحصير; فِراش ومِهاد، وذهب الحسن بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو وجه حسن وتأويل صحيح، وأما الآخرون، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمي العرب الملك حصيرابمعنى أنه محصور; أي محجوب عن الناس، كما قال لبيد;وَمَقاَمــةٍ غُلْــبِ الرّقــابِ كـأنَّهُمْجِــنٌّ لَـدَى بـابِ الحَـصِيرِ قِيـامُ (1)يعني بالحصير; الملك، ويقال للبخيل; حصور وحصر; لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة، وحبسه إياه عن النفقة، كما قال الأخطل;وشَــارِبٍ مُـرْبِحٍ بالكـأْسِ نـادَمَنِيلا بــالحَصُورِ وَلا فِيهــا بِسَــوَّارِ (2)ويروى; بسآر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه، وامتناعه من الجماع، وكذلك الحصر في الغائط; احتباسه عن الخروج، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه. فأما الحصيران; فالجنبان، كما قال الطرمّاح;قَلِيــلا تَتَـلَّى حاجَـةً ثُـمَّ عُـولِيَتْعَـلى كُـلّ مَفْـرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (3)يعني بالحصيرين; الجنبيّن.والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال; معنى ذلك ( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء، فإنما تقول; هو له حاصر أو محصر، فأما الحصير فغير موجود في كلامهم، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به، فيكون في لفظ فعيل، ومعناه مفعول به، ألا ترى بيت لبيد; لدى باب الحصير؟ فقال; لدى باب الحصير، لأنه أراد; لدى باب المحصور، فصرف مفعولا إلى فعيل. فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب، فلذلك قلت; قول الحسن أولى بالصواب في ذلك، وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال; جاء حصير بمعنى حاصر، كما قيل; عليم بمعنى عالم، وشهيد بمعنى شاهد، ولم يسمع ذلك مستعملا في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد.---------------------الهوامش ;(1) البيت في (ديوان لبيد، طبع ليدن سنة 1891 ص 39) . والرواية فيه ; "لدى طرف الحصير" . وروايته في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ص 371) وفي (لسان العرب; قوم); كرواية المؤلف هنا. قالا; ويقال للملك حصير، لأنه محجوب. والمقامة والمقام المجلس، ومقامات الناس; مجالسهم والمقامة; السادة، والغلب; جمع أغلب، وصف من غلب غلبا (كفرح فرحا); إذا غلظت رقبته. وفي (اللسان; حصر) ذكر هذا الشاهد كرواية المؤلف مع وضع لفظة "وقماقم" في مكان; "ومقامة" وأشار إلى الرواية الأخرى. ثم قال; والحصير المحبس، وفي التنزيل; "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" ، قال القتيبي; هو من حصرته، أي حبسته. فهو محصور، وهذا حصيره، أي محبسه .(2) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص 255).(3) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة 1927 ص 164) وقتلى الشيء; تتبعه وتتلى أيضا; بقي بقية من دينه. وعوليت; ذهب بها إلى العالية ، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } فيديل لكم الكرة عليهم، فرحمهم وجعل لهم الدولة. وتوعدهم على المعاصي فقال: { وَإِنْ عُدْتُمْ } إلى الإفساد في الأرض { عُدْنَا } إلى عقوبتكم، فعادوا لذلك فسلط الله عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فانتقم الله به منهم، فهذا جزاء الدنيا وما عند الله من النكال أعظم وأشنع، ولهذا قال: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } يصلونها ويلازمونها لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير. ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله، مكن لهم في الأرض ونصرهم على أعدائهم.
(عسى) فعل ماض ناقص- جامد-
(ربّكم) اسم عسى مرفوع.. و (كم) ضمير مضاف إليه
(أن) حرف مصدريّ ونصبـ (يرحمكم) مضارع منصوب.. و (كم) ضمير مفعول به
(الواو) استئنافيّة
(إن عدتم عدنا) مثل إن أحسنتم أحسنتم
(الواو) استئنافيّة
(جعلنا) فعل ماض..
و (نا) ضمير فاعلـ (جهنّم) مفعول به منصوب، ومنع من التنوين للعلميّة والتأنيث
(للكافرين) جارّ ومجرور متعلّق بـ (حصيرا) وهو مفعول به ثان منصوب.
جملة: «عسى ربّكم ... » لا محلّ لها استئنافيّة.وجملة: «يرحمكم ... » لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) .
والمصدر المؤوّلـ (أن يرحمكم..) في محلّ نصب خبر عسى وجملة: «إن عدتم ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «عدنا ... » لا محلّ لها جواب الشرط غير مقترنة بالفاء.
وجملة: «جعلنا ... » لا محلّ لها استئنافيّة.