وَمَن كَانَ فِى هٰذِهِۦٓ أَعْمٰى فَهُوَ فِى الْءَاخِرَةِ أَعْمٰى وَأَضَلُّ سَبِيلًا
وَمَنۡ كَانَ فِىۡ هٰذِهٖۤ اَعۡمٰى فَهُوَ فِى الۡاٰخِرَةِ اَعۡمٰى وَاَضَلُّ سَبِيۡلًا
تفسير ميسر:
ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن دلائل قدرة الله فلم يؤمن بما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو في يوم القيامة أشدُّ عمى عن سلوك طريق الجنة، وأضل طريقًا عن الهداية والرشاد.
وقوله تعالى "ومن كان في هذه أعمى" الآية قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد "ومن كان في هذه" أي في الحياة الدنيا "أعمى" أي عن حجة الله وآياته وبيناته "فهو في الآخرة أعمى" أي كذلك يكون "وأضل سبيلا" أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذا بالله من ذلك.
قوله تعالى ; ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا قوله تعالى ; ومن كان في هذه أعمى أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق .فهو في الآخرة أي في أمر الآخرةأعمى وقال عكرمة ; جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال ; اقرءوا ما قبلها ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر - إلى - " تفضيلا " . قال ابن عباس ; من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا . وقيل ; المعنى من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى . وقيل ; المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى . وقال الحسن ; من كان في هذه الدنيا كافرا ضالا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وقيل ; ومن كان في الدنيا أعمى عن [ ص; 268 ] حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى ; كما قال ; ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات . وقال ; ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم . وقيل ; المعنى في قوله فهو في الآخرة أعمى في جميع الأقوال ; أشد عمى ; لأنه من عمى القلب ، ولا يقال مثله في عمى العين . قال الخليل وسيبويه ; لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل ، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه . الأخفش ; لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف ، وأصله أعمى . وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه ; لأن فعله عمي وعشى . وقال الفراء ; حدثني بالشام شيخ بصري أنه سمع العرب تقول ; ما أسود شعره . قال الشاعر ;ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ أما الملوك فأنت اليوم ألأمهملؤما وأبيضهم سربال طباخوأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين أعمى وأعمى وفتح الباقون . وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني .وأضل سبيلا يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية .
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله هذه ، فقال بعضهم; أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا فقال ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ).* ذكر من قال ذلك;حدثنا محمد بن المثنى، قال; ثنا عبد الأعلى، قال; ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال; سئل عن هذه الآية ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقال; قال وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا قال; من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا.وقال آخرون; بل معنى ذلك; ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قُدرة الله فيها وحججه، فهو في الآخرة أعمى.* ذكر من قال ذلك;حدثني عليّ بن داود، قال; ثنا عبد الله، قال; ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) يقول; من عمي عن قُدرة الله في الدنيا( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) .حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فِي هَذِهِ أَعْمَى ) قال; الدنيا.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) يقول; من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فيما يغيب عنه من أمر الآخرة وأعمى.حدثنا محمد، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ ) الغائبة التي لم يرها( أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، وسئل عن قول الله تعالى ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ) فقرأ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وقرأ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وقرأ حتى بلغ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ قال; كلّ له مطيعون، إلا ابن آدم. قال; فمن كانت في هذه الآيات التي يعرف أنها منا، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى، فهو في الآخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلا.وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال; معنى ذلك; ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا يقول; وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها.وإنما قلنا; ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ ) الدنيا( أَعْمَى ) عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم، وحمله إياهم في البرّ والبحر، وما عدد في الآية التي ذكر فيها نعمه عليهم، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا، فهم كما عمّ تعالى ذكره.واختلف القرّاء في قراءة قوله ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فكسرت القَرأة جميعا أعني الحرف الأوّل قوله ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ) . وأما قوله ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه، وتأوّله بمعنى ; فهو في الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله ( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) .وهذه القراءة هي أوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت، فيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبين، فليس الأمر في ذلك كذلك.وإنما قلنا; ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت، فإنما عُنِي به عمى، قلوب الكفار، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثنا الحسن بن يحيى، قال; أخبرنا عبد الرزاق، قال; أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) قال; أعمى عن حجته في الآخرة.
{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } الدنيا { أَعْمَى } عن الحق فلم يقبله، ولم ينقد له، بل اتبع الضلال. { فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى } عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا، { وَأَضَلُّ سَبِيلًا } فإن الجزاء من جنس العمل، كما تدين تدان. وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها، هل عملت به أم لا؟ وأنهم لا يؤاخذون بشرع نبي لم يؤمروا باتباعه، وأن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه ومخالفته لها. وأن أهل الخير، يعطون كتبهم بأيمانهم، ويحصل لهم من الفرح والسرور شيء عظيم، وأن أهل الشر بعكس ذلك، لأنهم لا يقدرون على قراءة كتبهم، من شدة غمهم وحزنهم وثبورهم.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة