كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
كُلُّ ذٰ لِكَ كَانَ سَيِّئُهٗ عِنۡدَ رَبِّكَ مَكۡرُوۡهًا
تفسير ميسر:
جميع ما تقدَّم ذِكْرُه من أوامر ونواهٍ، يكره الله سيِّئَه، ولا يرضاه لعباده.
وقوله "كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها" أما من قرأ" سيئة" أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهينا عنه من قوله; "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق" إلى هنا فهو سيئة مؤاخذ عليها مكروها عند الله لا يحبه ولا يرضاه وأما من قرأ" سيئه" على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله; "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه" إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه وعند الله هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه الله.
قوله تعالى ; كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه . ذلك يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق سيئه على إضافة سيئ إلى الضمير ، ولذلك قال ; مكروها نصب على خبر كان . والسيء ; هو المكروه ، وهو الذي لا يرضاه الله - عز وجل - ولا يأمر به . وقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآي من قوله ; وقضى ربك - إلى قوله - " كان سيئه " مأمورات بها ومنهيات عنها ، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه . واختار هذه القراءة أبو عبيد . ولأن في قراءة أبي " كل ذلك كان سيئاته " فهذه لا تكون إلا للإضافة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سيئة بالتنوين ; أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة . وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله ; وأحسن تأويلا ثم قال ; ولا تقف ما ليس لك به علم ، ولا تمش ، ثم قال ; كل ذلك كان سيئة بالتنوين . وقيل ; إن قوله ولا تقتلوا أولادكم إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه ، فجعلوا كلا محيطا بالمنهي عنه دون غيره . وقوله ; مكروها ليس نعتا لسيئة ، بل هو بدل منه ; والتقدير ; كان سيئة وكان مكروها . وقد قيل ; إن مكروها خبر ثان لكان حمل على لفظه كل ، و " سيئة " محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل . وقال بعضهم ; وهو نعت لسيئة ; لأنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر . وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال ; إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا ، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ; ألا ترى قول الشاعر ;فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالهامستقبح عندهم . ولو قال قائل ; أبقل أرض لم يكن قبيحا . قال أبو علي ; ولكن يجوز في قوله مكروها أن يكون بدلا من " سيئة " . ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في عند ربك ويكون عند ربك في موضع الصفة لسيئة .استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه . قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل ; قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال ; ولا تمش في الأرض مرحا وذم المختال . والرقص أشد المرح والبطر . أولسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر ، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما . فما أقبح من ذي لحية ، وكيف إذا كان شيبة ، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان ، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان ، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط ، ثم هو إلى إحدى الدارين ، يشمس بالرقص شمس البهائم ، ويصفق تصفيق النسوان ، ولقد رأيت مشايخ في عمري ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله - ; ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي - رضي الله عنه - أنه قال ; الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في [ الكهف ] وغيرها إن شاء الله - تعالى - .
وقوله ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) فإن القرّاء اختلفت فيه، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) على الإضافة بمعنى; كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ .... إلى قولنا( وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا )(كانَ سَيِّئُهُ) يقول;سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها.وقال قارئو هذه القراءة; إنما قيل ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ ) بالإضافة، لأن فيما عددنا من قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ أمورا، هي أمر بالجميل، كقوله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وقوله وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وما أشبه ذلك، قالوا; فليس كلّ ما فيه نهيا عن سيئة، بل فيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا(سَيِّئُهُ)، وقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً) وقالوا; إنما عنى بذلك; كلّ ما عددنا من قولنا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ولم يدخل فيه ما قبل ذلك. قالوا; وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه، فالصواب قراءته بالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده; كلّ ذلك كان مكروها سيئه؛ لأنه إن جعل قوله; مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة; كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين.وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ ) على إضافة السيئ إلى الهاء، بمعنى; كلّ ذلك الذي عددنا من وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ .... كَانَ سَيِّئُهُ لأن في ذلك أمورا منهيا عنها، وأمورا مأمورا بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ إنما هو عطف على ما تقدّم من قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ فإذا كان ذلك كذلك، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحقّ من قراءته سيئةً بالتنوين، بمعنى السيئة الواحدة.فتأويل الكلام إذن; كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فاتق مواقعته والعمل به.
{ كُلُّ ذَلِكَ } المذكور الذي نهى الله عنه فيما تقدم من قوله: { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } والنهي عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك { كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } أي: كل ذلك يسوء العاملين ويضرهم والله تعالى يكرهه ويأباه.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة