وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعٰمِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِّلشّٰرِبِينَ
وَاِنَّ لَـكُمۡ فِىۡ الۡاَنۡعَامِ لَعِبۡرَةً ؕ نُّسۡقِيۡكُمۡ مِّمَّا فِىۡ بُطُوۡنِهٖ مِنۡۢ بَيۡنِ فَرۡثٍ وَّدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآٮِٕغًا لِّلشّٰرِبِيۡنَ
تفسير ميسر:
وإن لكم -أيها الناس- في الأنعام -وهي الإبل والبقر والغنم- لَعظة، فقد شاهدتم أننا نسقيكم من ضروعها لبنًا خارجًا من بين فَرْث -وهو ما في الكَرِش- وبين دم خالصًا من كل الشوائب، لذيذًا لا يَغَصُّ به مَن شَرِبَه.
يقول تعالى "وإن لكم" أيها الناس "في الأنعام" وهى الإبل والبقر والغنم "لعبرة" أي لآية ودلالة حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه "نسقيكم مما في بطونه" أفرده ههنا عودا على معنى النعم أو الضمير عائد على الحيوان فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان وفي الآية الأخرى مما في بطونها ويجوز هذا وهذا كما في قوله تعالى "كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره" وفي قوله تعالى "وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان" أي المال وقوله "من بين فرث ودم لبنا خالصا" أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته فيصرف منه دم إلى العروق ولبن إلى الضَّرع وبول إلى المثانة وروث إلى المخرج وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به وقوله "لبنا خالصا سائغا للشاربين" أي لا يغص به أحد.
قوله تعالى ; وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فيه عشر مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; وإن لكم في الأنعام لعبرة قد تقدم القول في الأنعام ، وهي هنا الأصناف الأربعة ; الإبل والبقر والضأن والمعز . لعبرة أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته . والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة ، ومنه فاعتبروا . وقال أبو بكر الوراق ; العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء . ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا .الثانية ; قوله تعالى ; نسقيكم قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر [ ص; 111 ] ( بفتح النون ) من سقى يسقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة . قيل ; هما لغتان . وقال لبيد ;سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلالوقيل ; يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته ، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته ; قال ابن عزيز ، وقد تقدم . وقرأت فرقة " تسقيكم " بالتاء ، وهي ضعيفة ، يعني الأنعام . وقرئ بالياء ، أي يسقيكم الله - عز وجل - . والقراء على القراءتين المتقدمتين ; ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير .الثالثة ; قوله تعالى ; مما في بطونه اختلف الناس في الضمير من قوله ; مما في بطونه على ماذا يعود . فقيل ; هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث . قال سيبويه ; العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . قال ابن العربي ; وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية ، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه . وقيل ; لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال ; هو الأنعام وهي الأنعام ، جاز عود الضمير بالتذكير ; وقال الزجاج ، وقال الكسائي ; معناه مما في بطون ما ذكرناه ، فهو عائد على المذكور ; وقد قال الله - تعالى - ; إنها تذكرة . فمن شاء ذكره وقال الشاعر ;مثل الفراخ نتفت حواصلهومثله كثير . وقال الكسائي ; مما في بطونه أي مما في بطون بعضه ; إذ الذكور لا ألبان لها ، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة . وقال الفراء ; الأنعام والنعم واحد ، والنعم يذكر ، ولهذا تقول العرب ; هذا نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . قال ابن العربي ; إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال ; نسقيكم مما في بطونها وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا . والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين .الرابعة ; استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير ، أن لبن [ ص; 112 ] الفحل يفيد التحريم ، وقال ; إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) فجرى الاشتراك فيه بينهما . وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في " النساء " والحمد للهالخامسة ; قوله تعالى ; من بين فرث ودم لبنا خالصا نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم . والفرث ; الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج لم يسم فرثا . يقال ; أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى ; أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم ، ثم يخلص اللبن من الدم ; فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق . وقال ابن عباس ; إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق ، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش ; حكمة بالغة فما تغن النذر . خالصا يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد . وقال ابن بحر ; خالصا بياضه . قال النابغة ;بخالصة الأردان خضر المناكبأي بيض الأكمام . وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة .السادسة ; قال النقاش ; في هذا دليل على أن المني ليس بنجس . وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال ; كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا . قال ابن العربي ; إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع . اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة ; وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه .قلت ; قد يعارض هذا بأن يقال ; وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه [ ص; 113 ] الإنسان المكرم ; وقد قال - تعالى - ; يخرج من بين الصلب والترائب ، وقال ; والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة وهذا غاية في الامتنان . فإن قيل ; إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول ، قلنا ; هو ما أردناه ، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر ; وقد قيل ; إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة ; فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء . وقد تقدم فإن قيل ; أصله دم فهو نجس ، قلنا ينتقض بالمسك ، فإن أصله دم وهو طاهر . وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم ; لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت ; كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسا بظفري . قال الشافعي ; فإن لم يفرك فلا بأس به . وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه . وقال ابن عباس ; هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة . فإن قيل ; فقد ثبت عن عائشة أنها قالت ; كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه . قلنا ; يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة ، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث . والله أعلم . وقال مالك وأصحابه والأوزاعي ; هو نجس . قال مالك ; غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا ، وهو قول الكوفيين . ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم . واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة . وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون .السابعة ; في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره ، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ; لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس ، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه ، فمن قال ; إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر . ومن قال ; ينجس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ; لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية ، [ ص; 114 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ; الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم . ولم يخص . وقد مضى في " النساء "الثامنة ; قوله تعالى ; سائغا للشاربين أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه . يقال ; ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق ، وأساغه شاربه ، وسغته أنا أسيغه وأسوغه ، يتعدى ، والأجود أسغته إساغة . يقال ; أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني ; وقال - تعالى - ; يتجرعه ولا يكاد يسيغه . والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك . يقال ; الماء سواغ الغصص ; ومنه قول الكميت ;فكانت سواغا أن جئزت بغصةوروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .التاسعة ; في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها ، ولا يقال ; إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده ، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار . وقد تقدم هذا المعنى في " المائدة " وغيرها وفي الصحيح عن أنس قال ; لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله ; العسل والنبيذ واللبن والماء . وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام ، وأباحه عامة العلماء . وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار ، فأتي بفالوذج فامتنع عن أكله ، فقال له الحسن ; كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا .العاشرة ; روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال ; أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلبن فشرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن . قال [ ص; 115 ] علماؤنا ; فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمى به الجثث والأبدان ، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة ; فقال في الصحيح ; فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك . ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات ; فهو مبارك كله .
يقول تعالى ذكره; وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نُسقيكم مما في بطونه.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( نُسْقِيكُمْ) فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة، سوى عاصم ؛ ومن أهل المدينة أبو جعفر ( نُسْقِيكُمْ) بضمّ النون. بمعنى; أنه أسقاهم شرابًا دائمًا. وكان الكسائيّ يقول; العرب تقول; أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا; إذا جعلته شِرْبا دائما، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا; سقيناهم فنحن نَسْقِيهم بغير ألف ؛ وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر، ومن أهل العراق عاصم (نَسْقِيكم) بفتح النون من سَقاه الله ، فهو يَسْقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السَّقي غير دائم ، وتنـزعها فيما كان دائمًا، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائيّ، يدلّ على ما قلنا من ذلك، قول لَبيد في صفة سحاب;سَــقَى قَـوْمي بَنِـي مَجْـدٍ وأسْـقَىنُمَــيْرًا والقَبَــائِلَ مِــنْ هِــلالِ (1)فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان ذلك كذلك، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يُسْقِي، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم. وأما قوله ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك، وهي جمع والهاء في البطون موحدة، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويِّي الكوفة يقول; النَّعم والأنعام شيء واحد، لأنهما جميعًا جمعان، فردّ الكلام في قوله ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلى التذكير مرادًا به معنى النَّعم، إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب;إذا رأيْــتَ أنْجُمــا مــنَ الأسَـدْجَبْهَتـــهُ أوِ الخَـــرَاة والكَتَــدْبــال سُـهَيْلٌ فِـي الفَضِيـخِ فَفَسَـدْوطــابَ ألْبــانُ اللِّقــاحِ فَــبَرَدْ (2)ويقول; رجع بقوله " فبرد " إلى معنى اللبن، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد ، وفي تذكير النعم قول الآخر;أكُـــلَّ عــامٍ نَعَــمٌ تَحْوُونَــهُيُلْقحُــــهُ قَـــومٌ وتَنْتِجُونَـــهُ (3)فذكر النعم ؛ وكان غيره منهم يقول; إنما قال ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأنه أراد; مما في بطون ما ذكرنا وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم;مِثْلُ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ (4)وقول الأسود بن يَعْفُر;إنَّ المَنِيَّـــةَ والحُــتُوفَ كلاهُمــايُــوفي المَخـارمَ يَرْقُبـانِ سَـوَادِي (5)فقال; كلاهما، ولم يقل; كلتاهما ؛ وقول الصَّلَتان العَبْدِيّ;إنَّ السَّــماحَةَ والمُــرُوءَة ضُمِّنــاقَـبْرًا بمَـرْوَ عـلى الطَّـرِيقِ الوَاضِحِ (6)وقول الآخر;وعَفْـرَاءُ أدْنَـى النَّـاس مِنِّـي مَـوَدَّةًوعَفْـرَاءُ عَنّـي المُعْـرِضُ المُتَـوَانِي (7)ولم يقل; المعرضة المتوانية ؛ وقول الآخر;إذا النَّــاسُ نــاسٌ والبِـلادُ بغِبْطَـةٍوَإذْ أُمُّ عَمَّــارٍ صَــديقٌ مُسـاعِفُ (8)ويقول; كل ذلك على معنى هذا الشيء وهذا الشخص والسواد، وما أشبه ذلك ، ويقول; من ذلك قول الله تعالى ذكره فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي بمعنى; هذا الشيء الطالع. وقوله كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ولم يقل ذكرها، لأن معناه; فمن شاء ذكر هذا الشيء. وقوله وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ولم يقل جاءت . وكان بعض البصريين يقول; قيل ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأن المعنى; نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه ، ويقول; فيه اللبن مضمر، يعني أنه يسقي من أيها كان ذا لبن، وذلك أنه ليس لكلها لبن، وإنما يُسقى من ذوات اللبن. والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث.وقوله ( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا ) يقول; نسقيكم لبنا، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا; يقول; خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به ( سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ) يقول; يسوغ لمن شربه فلا يَغَصّ به كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة. وقيل; إنه لم يَغصّ أحد باللبن قَطُّ.------------------------الهوامش ;(1) البيت للبيد (لسان العرب; سقى) قال; السقي; معروف، والاسم; السقيا بالضم. وسقاه الله الغيث وأسقاه، وقد جمعهما لبيد في قوله; "سقى قومي". وقال الفراء في معاني القرآن; (174) العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري لقوم; أسقيت. فإذا سقاك الرجل ماء لشفتك، قالوا; سقاه، ولم يقولوا; أسقاه، كما قال الله عز وجل; (وسقاهم ربهم شراباً طهورًا). وقال; (الذي يطعمني ويسقين). وربما قالوا لما في بطون الأنعام ولماء السماء سقى السماء وأسقى، كما قال لبيد; "سقي قومي ..." البيت. وقد اختلف القراء، وقرأ بعضهم نسقيكم، وبعضهم; يسقيكم.(2) الأبيات الثلاثة الأولى في (اللسان; جبه) قال الأزهري; الجبهة النجم الذي يقال له; جبهة الأسد، وهي أربعة أنجم ينزلها القمر، قال الشاعر; "إذا رأيت ..." وفي (اللسان; خرت). والخراتان نجمان من كواكب الأسد، وهما كوكبان بينهما قدر سوط، وهما كتفا الأسد، واحدتهما خراة وأنشد الأبيات الأربعة. وفي (اللسان; كتد); والكتد; نجم، أنشد ثعلب; "إذا رأيت ... الخ" الأبيات وفي (اللسان; سهل) الأزهري; سهيل كوكب لا يرى بخراسان، ويرى بالعراق. وقال ابن كناسة، سهيل يرى بالحجاز، في جميع أرض العرب، ولا يرى بأرض أرمينية. وقال الأزهري; سهيل كوكب يمان. وفي (اللسان فضخ) الفضيخ; عصير العنب، وهو أيضا شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده، من غير أن تمسه النار، وهو المشدوخ.وفضحت البسر وافتضخته، قال الراجز; "بال سهيل في الفضيخ ففسد" يقول; لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب، فكأنه بال فيه. وأصل هذه الشواهد من شواهد الفراء في معاني القرآن، قال; ( ص 174 ); وأما قوله "مما في بطونه"، ولم يقل "بطونها" فإنه قيل -والله أعلم- إن النعم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إلى معنى "النعم"، إذ كان يؤدي عن الأنعام. أنشدني بعضهم; إذا رأيت أنجما .. الخ الأبيات الأربعة، وهي من مشطور الرجز. فرجع (ضمير قوله فيرد) إلى اللبن، والألبان يكون في معنى واحد، قال; وقال الكسائي "نسقيكم مما في بطونه"; بطون ما ذكرنا. وهو صواب. أنشدني بعضهم "مثل الفراخ نتفت حواصله".(3) هذا الرجز لقيس بن الحصين بن يزيد الحارثي، أنشده أبو عبيدة في (مجاز القرآن 1 ; 362) وأنشد بعد بيتي الشاهد بيتا ثالثا وهو; "أربابه نوكى ولا يحمونه). والشاهد فيه أن الأنعام يذكر ويؤنث. قال; وقال آخرون; المعنى على النعم، لأن النعم، يذكر ويؤنث. وأنشده في اللسان (نعم) قال; وقال آخر في تذكير النعم;فــي كُــلَ عــامٍ نَعَـمٌ يَحْوُونَـهُيُلْقِحُــــهُ قَـــوْمٌ وتَنْتِجُونَـــهُوذكر الرجز البغدادي في الخزانة ( 1 ; 196 - 197 ) وزاد فيه أبياتا، قال; وتنتجونه بتاء الخطاب; يقال نتج الناقة أهلها; إذا استولدوها. وأنتجت الفرس بالهمزة; حان نتاجها. والنتاج بالكسر; اسم يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولى الإنسان ناقة أو شاة ما خضا حتى تضع قيل نتجها نتجامن باب ضرب، فالإنسان كالقابلة، لأنه يتلقى الولد ويصلح من شأنه، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد; نتيجة.يقول; يحملون الفحولة على النوق، فإذا حملت أغرتم أنتم عليها. ورواية البيت في الخزانة كرواية المؤلف. والأبيات; قبلت في يوم الكلاب الثاني، وهو ماء لبني تميم بين الكوفة والبصرة .(4) هو مثل الشاهد السابق على سابقه، أنشده الفراء في معاني القرآن (ص 174) شاهدا على أن قوله نتفت حواصله، أي حواصل ما ذكرنا، كما فسره الكسائي. ونقله صاحب اللسان في (نعم) مع أشباه له.(5) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي (المفضيليات; 101) والمنية; الموت. والحتوف; جمع حتف، يريد أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت. والمخارم; جمع مخرم; الطريق في الغلظ، عن السكري، وقيل; الطرق في الجبال، وأفواه الفجاج، وسواد الإنسان; شخصه. والشاهد في البيت قوله كلاهما بالتذكير، مع أن المنية والحتوف مؤنثان، وكان حقه أن يقول; كلتاهما، لأن الشاعر لم يحفل بهذا التأنيث، واعتبر المذكور أو لا مذكرا، بمعنى الشيئين.(6) الشاهد في البيت أن السماحة والمروءة لفظتان مؤنثتان ولم يؤنث الفعل المتحمل ضميرهما، فقال الشاعر; ضمنا، ولم يقل ضمنتا، لأنه اعتبر ما رجع إليه الضمير قبل الفعل شيئين مذكرين، أو خلقين، فلذلك لم يؤنث الفعل المسند إلى ضميرهما.(7) استشهد المؤلف بهذا البيت على أن المعرض وهو خبر لعفراء، لم يطابق المبتدأ في التأنيث وهو عفراء، لأن الشاعر ذهب إلى معنى الحبيب أو الشخص، مما هو مذكر في المعنى.(8) وهذا الشاهد كسابقه، لأن الشاعر ذهب إلى أن أم عمار شخص، فلذلك قال صديق على التأويل ولم يقل صديقه على المطابقة. والصديق المساعف; أي المواصل; الذي يدنو من صديقه ويسعفه بحاجته.
أي: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ } التي سخرها الله لمنافعكم { لَعِبْرَةً } تستدلون بها على كمال قدرة الله وسعة إحسانه حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم، فأخرج من بين ذلك لبنا خالصا من الكدر سائغا للشاربين للذته ولأنه يسقي ويغذي، فهل هذه إلا قدرة إلهية لا أمور طبيعية. فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح لبنا خالصا سائغا للشاربين؟
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة