كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
كَمَاۤ اَنۡزَلۡنَا عَلَى الۡمُقۡتَسِمِيۡنَۙ
تفسير ميسر:
وقل; إني أنا المنذر الموضِّح لما يهتدي به الناس إلى الإيمان بالله رب العالمين، ومنذركم أن يصيبكم العذاب، كما أنزله الله على الذين قسَّموا القرآن، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه الآخر من اليهود والنصارى وغيرهم.
وقوله" المقتسمين " أي المتحالفين أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح أنهم " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله " الآية أي نقتلهم ليلا. قال مجاهد; تقاسموا وتحالفوا " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " " أولم تكونوا أقسمتم من قبل " الآية " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم; المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق ".
وقيل ; الكاف زائدة ، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين ; كقوله ; ليس كمثله شيء وقيل ; أنذرتكم مثل ما أنزلنا بالمقتسمين . وقيل ; المعنى كما أنزلنا على المقتسمين ، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين ، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الذين بغوا ، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى .واختلف في المقتسمين على أقوال سبعة ;الأول ; قال مقاتل والفراء ; هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها ; لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة ; فإنه مجنون ، وربما قالوا ساحر ، وربما قالوا شاعر ، وربما قالوا كاهن . وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق ، فأماتهم الله شر ميتة ، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد ، فإذا سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ; صدق أولئك .الثاني ; قال قتادة ; هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا ، وبعضه سحرا ، وبعضه كهانة ، وبعضه أساطير الأولين .الثالث ; قال ابن عباس ; ( هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ) . وكذلك قال عكرمة ; هم أهل الكتاب ،وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين ، فيقول بعضهم ; هذه السورة لي وهذه السورة لك . وهو القول الرابع .الخامس ; قال قتادة ; قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه .السادس ; قال زيد بن أسلم ; المراد قوم صالح ، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين ; كما قال - تعالى - ; تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله .[ ص; 54 ] السابع ; قال الأخفش ; هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها . وقيل ; إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ; ذكره الماوردي .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله ( الْمُقْتَسِمِينَ )، فقال بعضهم; عني به; اليهود والنصارى، وقال; كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضوه ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.* ذكر من قال ذلك;حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال; ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، في قول الله; كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال; هم اليهود والنصارى، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا هشيم، قال; أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال; هم أهل الكتاب، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.حدثنا محمد بن بشار، قال; ثنا مؤمل، قال; ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، في قوله كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال; الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.حدثنا ابن المثنى، قال; ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال; ( الْمُقْتَسِمِينَ ) أهل الكتاب.( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال; يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.حدثني مطر بن محمد الضَّبِّيُّ، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا شعبة، قال; ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، أنه قال في قوله ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال; هم أهل الكتاب.حدثنا ابن بشار، قال; ثنا محمد بن جعفر، قال; ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال; هم أهل الكتاب، آمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.حدثني المثنى، قال; ثنا عمرو بن عون، قال; ثنا هشيم، قال; أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس، في قوله ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال; هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه.حدثني المثنى، قال; ثنا عمرو بن عون، قال; أخبرنا هشيم ، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال; جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.حدثني المثنى، قال; ثنا عمرو بن عون، قال; أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، قال; هم أهل الكتاب.حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال ; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال; هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب قسموا الكتاب ، فجعلوه أعضاء، يقول; أحزابا، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، قال; قال ابن عباس; ( الْمُقْتَسِمِينَ ) أهل الكتاب، ولكنهم سموا المقتسمين، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن; هذه السورة لي، وقال بعضهم; هذه لي.ذكر من قال ذلك;حدثنا محمد بن المثنى، قال; ثنا محمد بن جعفر، قال; ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال; كانوا يستهزءون، يقول هذا; لي سورة البقرة، ويقول هذا; لي سورة آل عمران.وقال آخرون; هم أهل الكتاب، ولكنهم قيل لهم; المقتسمون; لاقتسامهم كتبهم ، وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها ، وكفره ببعض، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم ، وإيمانهم بما كفر به الآخرون.* ذكر من قال ذلك;حدثنا ابن حميد، قال; ثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قال; هم اليهود والنصارى، قسموا كتابهم ففرّقوه. وجعلوه أعضاء.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال; ثني الحسن قال; ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال; ثنا أبو حذيفة، قال; ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال; أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال; أهل الكتاب.وقال آخرون; عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ رهط خمسة من قريش، عضَّهُوا كتاب الله.وقال آخرون; عُنِي بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله.* ذكر من قال ذلك;حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله ( كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) قال; الذين تقاسموا بصالح ، وقرأ قول الله تعالى وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قال; تقاسموا بالله حتى بلغ الآية.وقال بعضهم; هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم، كان أهلها بعثوهم في عقابها، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم، أن يقول; هو مجنون ، وإلى آخر; إنه شاعر ، وإلى بعضهم; إنه ساحر.والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال; إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضَّوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته ، أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم ، وتكذيبهم نبيهم ، ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم ، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين; أهل الكتابين; التوراة والإنجيل، لأنهم اقتسموا كتاب الله، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها ، وكذبت بالإنجيل والفرقان، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان. وجائز أن يكون عُنِي بذلك; المشركون من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا ، وبعض كهانة ، وبعض أساطير الأوّلين . وجائز أن يكون عُنِيَ به الفريقان ، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه ، فإذ لم يكن في التنـزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرة عقل، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت، وجب أن يكون مقتضيا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نـزول هذه الآية، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله ، كانوا عبرة ، وللمتعظين بهم منهم عِظَة.
وقوله: { كما أنزلنا على المقتسمين } أي: كما أنزلنا العقوبة على المقتسمين على بطلان ما جئت به، الساعين لصد الناس عن سبيل الله.
(الكاف) حرف جرّ وتشبيه ،
(ما) اسم موصول مبنيّ في محلّ جرّ متعلّق بمحذوف مفعول مطلق
(أنزلنا) مثل متّعنا ،
(على المقتسمين) جارّ ومجرور متعلّق بـ (أنزلنا) .جملة: «أنزلنا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (ما) .
(الذين) اسم موصول في محلّ جرّ نعت للمقتسمين ،
(جعلوا) فعل ماض مبنيّ على الضمّ.. و (الواو) فاعلـ (القرآن) مفعول به منصوبـ (عضين) مفعول به ثان منصوب، وعلامة النصب الياء فهو ملحق بجمع المذكّر.
وجملة: «جعلوا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .