لَقَالُوٓا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
لَـقَالُوۡۤا اِنَّمَا سُكِّرَتۡ اَبۡصَارُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٌ مَّسۡحُوۡرُوۡنَ
تفسير ميسر:
ولو فتحنا على كفار "مكة" بابًا من السماء فاستمروا صاعدين فيه حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب ملكوت الله، لما صدَّقوا، ولقالوا; سُحِرَتْ أبصارنا، حتى رأينا ما لم نرَ، وما نحن إلا مسحورون في عقولنا من محمد.
بل قالوا " إنما سكرت أبصارنا " قال مجاهد وابن كثير والضحاك سدت أبصارنا وقال قتادة عن ابن عباس أخذت أبصارنا وقال العوفي عن ابن عباس شبه علينا وإنما سحرنا وقال الكلبي عميت أبصارنا وقال ابن زيد " سكرت أبصارنا " السكران الذي لا يعقل.
معنى سكرت سدت بالسحر ; قاله ابن عباس والضحاك . وقال الحسن ; سحرت . الكلبي ; أغشيت أبصارنا ; وعنه أيضا عميت . قتادة ; أخذت . وقال المؤرج ; دير بنا من الدوران ; أي صارت أبصارنا سكرى . جويبر ; خدعت . وقال أبو عمرو بن العلاء ; سكرت غشيت وغطيت . ومنه قول الشاعر ;وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكروقال مجاهد ; سكرت حبست . ومنه قول أوس بن حجر ;فصرت على ليلة ساهرة فليست بطلق ولا ساكرةقلت ; وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك ; منعت . قال ابن عزيز ; سكرت أبصارنا سدت أبصارنا ; هو من قولك ، سكرت النهر إذا سددته . ويقال ; هو من سكر الشراب ، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر . وقرأ ابن كثير " سكرت " بالتخفيف ، . والباقون بالتشديد . قال ابن الأعرابي ; سكرت ملئت . قال المهدوي ; والتخفيف والتشديد في سكرت ظاهران ، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه . والمعروف أن " سكر " لا يتعدى . قال أبو علي ; يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر . ومن قرأ " سكرت " فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران ، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله . وقد قيل ; إنه بالتخفيف [ من ] سكر الشراب ، وبالتشديد أخذت ، ذكرهما الماوردي . وقال النحاس ; والمعروف من قراءة مجاهد والحسن " سكرت " بالتخفيف . قال الحسن ; أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال ; سكرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا . وقال الفراء ; من قرأ سكرت أخذه من سكور الريح . قال النحاس ; وهذه الأقوال متقاربة . والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء - رحمه الله تعالى - ، قال ; هو من السكر في الشراب . وهذا قول حسن ; أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله . وسكور الريح سكونها وفتورها ; فهو يرجع إلى معنى التحيير .
وقوله ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول; لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم; ما هذا بحقّ إنما سكِّرت أبصارنا.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( سُكِّرَتْ ) فقرأ أهل المدينة والعراق; ( سُكِّرَتْ ) بتشديد الكاف، بمعنى; غُشيت وغطيت، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ ( لَقالُوا إنَّمَا سُكِرَتْ ).حدثني بذلك الحرث، قال; ثنا القاسم، قال; سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل، عن مجاهد أنه قرأها( سُكِرَتْ أَبْصارُنا ) خفيفة ، وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى; حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح، وذلك سكونها وركودها، يقال منه; سكرت الريح; إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول; هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه; قد غشَّى أبصارنا السكر.وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم; معنى ( سُكِّرَتْ ) ; سدّت.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال; ثنا شبابة، قال; ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال; ثنا أبو حذيفة، قال; ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال; أخبرنا إسحاق، قال; ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال; سدّت.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا الحسن بن محمد، قال; ثنا حجاج، يعني ابن محمد، عن ابن جريج، قال; أخبرني ابن كثير قال; سدّت.حُدثت عن الحسين، قال; سمعت أبا معاذ يقول; أخبرنا عبيد، قال; سمعت الضحاك يقول، في قوله ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يعني; سدّت ، فكأن مجاهدا ذهب في قوله ، وتأويله ذلك بمعنى; سدّت، إلى أنه بمعنى; منعت النظر، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسَّكر به.وقال آخرون; معنى سكرت; أخذت.* ذكر من قال ذلك;حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول; أخذت أبصارنا.حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ، إنما أخذ أبصارنا، وشبَّه علينا، وإنما سحرنا.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة ( لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) يقول; سُحرت أبصارنا، يقول; أخذت أبصارنا.حدثني المثنى، قال; ثنا إسحاق، قال; ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال; ثنا شيبان، عن قتادة، قال; من قرأ ( سُكِّرَتْ ) مشددة; يعني سدّت ، ومن قرأ ( سُكرَتْ ) مخففة، فإنه يعني سحرت ، وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله ( سُكِّرَتْ ) إلى أن أبصارهم سُحرت، فشبه عليهم ما يبصرون، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب; سُكِّر على فلان رأيه; إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد ، فلم يدر الصواب فيه من غيره، فإذا عزم على الرأي قالوا; ذهب عنه التسكير.وقال آخرون; هو مأخوذ من السكر، ومعناه; غشي على أبصارنا فلا نبصر، كما يفعل السكر بصاحبه، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر.* ذكر من قال ذلك;حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) قال; سكرت، السكران الذي لا يعقل.وقال آخرون; معنى ذلك; عميت.* ذكر من قال ذلك;حدثنا الحسن بن محمد، قال; ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الكلبي ( سُكِّرَتْ ) قال; عميت.وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال; معنى ذلك; أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حدّ إبصارها ، وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته ، وسكن حدّ حرّه ، قد سكر يسكر ، قال المثنى بن جندل الطُّهوي;جــاءَ الشِّــتاءُ واجْثَــألَّ القُــبَّرُواسـتَخْفَتِ الأفْعَـى وكـانت تَظْهَـرُوجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (7)أي تسكن وتذهب وتنطفئ ، وقال ذو الرّمَّة;قَبْــلَ انْصِــداعِ الفَجْـرِ والتَّهَجْـرِوخَــوْضُهُنَّ اللَّيــلَ حـينَ يَسْـكُرُ (8)يعني; حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول; سكرت الريح تسكر سكورا، بمعنى; سكنت ، وإن كان ذلك عنها صحيحا، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن ( سُكِّرَتْ ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.------------------------الهوامش;(7) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي ، واجثأل ; اجتمع وتقبض ، والقبر كالقنبر ; ضرب من الطير كالعصافير ، واحده قبرة وقنبرة ، والحرور ; الحر . ويقال سكرت عينه تسكر ; إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر ; سكن وخبأ ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 1 ; 337 ، 338 ) عند قوله تعالى " سكرت أبصارنا " قال ; أي غشيت سمادير ، فذهبت وخبا نظرها ، قال ; جاء الشتاء ، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر ، وهو ; " وطلعت شمس عليها مغفر " . وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله ; أي يذهب حرها ويخبو . وقال أبو عمرو بن العلاء ; " سكرت أبصارنا " ; مأخوذ عن سكر الشراب ، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر ، وقال الفراء ، معناه ; حبست ومنعت عن النظر .(8) البيت في ديوان ذي الرمة ( طبعة كيمبردج سنة 1919 ) ص 202 وقبله ;أتَتْــكَ بــالقَوْمِ مَهــارٍ ضُمَّــرُخُــوصٌ بَــرَى أشْـرافَها التَّبَكُّـرُخوص ; غائرات العيون ، وأشرافها ; أسنمَها ، والتبكر ; سير البكرة ، والتهجو ; سير الهاجرة ، ويسكر ; يتسكر الأبصار بظلامه ، قوله ; والتهجر ، بالرفع ; معطوف على قوله التبكر ، في البيت السابق عليه .
تفسير الآيتين 14 و15 :ـ أي: ولو جاءتهم كل آية عظيمة لم يؤمنوا وكابروا { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } فصاروا يعرجون فيه، ويشاهدونه عيانا بأنفسهم لقالوا من ظلمهم وعنادهم منكرين لهذه الآية: { إنما سكرت أبصارنا } أي: أصابها سكر وغشاوة حتى رأينا ما لم نر، { بل نحن قوم مسحورون } أي: ليس هذا بحقيقة، بل هذا سحر، وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا الإنكار، فإنهم لا مطمع فيهم ولا رجاء
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة